الرسالة نت- رشا فرحات
رقم جديد يضاف فوق عشرات الأرقام من المجازر، وعشرات آلاف الشهداء، نقاوم أفكار عقولنا التي لم تعد تحتمل، ونخاف عليها من أن تفقد صوابها أمام المشهد الذي تعلق صوره في الذاكرة، ذاكرة الفلسطيني الذي يغذي قضيته بها ويتذكر ألف مرة قبل النوم بأن له حق لا يجب أن يضيع.
أصوات الاشتباكات في البداية أوحت أن الحدث في منطقة دير البلح إلى الجنوب من البريج والنصيرات قبل أن يتضح أن مسار الأحداث كلها في منطقة النصيرات. وبدأت الدبابات في محاصرة الناس في الشوارع من مخيم البريج حتى مخيم النصيرات، مطلقين طائراتهم المسيرة على أي شخص يقرر الحركة، بالتزامن مع قصف مدفعي غير مسبوق للمكان وإطلاق النار تجاه السكان والمنازل بقوة وكثافة.
وصفها أحدهم بــ"أهوال يوم القيامة"، لأن القصف جاء مباغتة في وضح النهار بينما ينشغل الناس بالتسوق في شارع السوق الرئيسي أكثر الأماكن المكتظة بالسكان والمارة، وفجأة وجدوا انفسهم يركضون في كل اتجاه دون معرفة الوجهة، والناس تتساقط من حولهم بين شهيد وجريح .
تقول امرأة وهي تصف المشهد بأنفاس متلاحقة: لا أدري كيف نجوت مع أبنائي من الموت، كانت الجثث ملقاة في كل مكان، وكنت أجر أبنائي ونصرخ من هول المشهد حتى وصلنا إلى الجهة الأخرى من المخيم .
وكأن الناس سكارى، يتراكضون إلى مستشفى شهداء الأقصى يبحثون عن أبنائهم وعائلاتهم اللذين كانوا في تلك اللحظة يتواجدون في منتصف المعركة، أو تم انتشالهم من تحت انقاض البيوت المجاورة والتي قصفتها طائرات الاحتلال.
طفل يرقد على كتف والده، وفي فمه لقمة لم تبتلع، لقد كان يواعد أصدقاءه باللقاء على مفترق الطريق ليكملان اللعب فوق حطام المنازل، وتبادل القصص الكثيرة التي يكون الموت بطلها في كل مرة، ولم يكن يدري بأنه هو قصتهم القادمة التي سيظلون يرددوها على مدار عمرهم الطويل.
هكذا جاءت الطائرات قبل أربعة أيام كثيفة مرعبة، منخفضة فوق الرؤوس، لتخلق قصة بطولة زائفة وتدعي (إسرائيل) أنها خلصت أربعة من أسراها المتواجدين في أحد البيوت في مخيم النصيرات، جاءت سيارة لتلقهم تحت تغطية القصف المتواصل لكل من يسير في الطريق، والسوق مكتظ بالمارة، والمنزل في منتصف السوق، والشهداء يتطايرون في سمائه، أشلاء الأطفال والنساء اللواتي كن يصبرن بطون أبنائهن والآباء الذاهبين للتسوق، والأطفال اللاعبين على الطرقات، كل ذلك تحول إلى كابوس مر على عقولهم، حينما قلبت الصورة في المخيم إلى حمم من نار.
دخلت القوات الخاصة إلى المنزل المستهدف في عملية معقدة استغرت أكثر من ساعتين، يحاولون تخليص أسراهم الأربعة ويقتلون في طريقهم ثلاثة منهم آخرين ويطلقون النار بجنون على كل من يصادفهم بينما تواصل الطائرات صناعة مشهد الموت وارتكاب المجزرة في الطرقات المؤدية إلى المنزل المستهدف.
مجزرة مقصودة ومدروسة سحبت أرواح 270 مواطنا بين من سكان مخيم النصيرات، معظمهم من الأطفال والنساء المتواجدين في السوق .
ساعات الجحيم مرت، وبدأ أحدهم بالصراخ الناس، الناس مقطعة، وبدأوا يرفعون جثامين الشهداء من تحت الأهوال، وهناك أم صرخت:" ابني جمعته فتافيت، وزوجي بين الحيا والموت، وأب آخر كان يحضر الطعام خلف الموقد حينما خر وهو يحمل ملعقة قبل أن يقلب الطعام لأبنائه.
في باحات مستشفى شهداء الأقصى صرخت أم وهي تحمل ابنها مكفنا :" دير بالك على ابني يارب، أنت أحن مني عليه، يمكن ألحقك قريبا يمه، الله يسهل عليك" وابنها يردد من ورائها:" أهلا بالموت ان جاء العيد، ان عشنا سنعيش كراما"
المستشفى قريب من الحدث، وكل الأماكن قريبة نظرا لاكتظاظ السكان وخيام النازحين في الطرقات فسمع الأطباء صوت القصف المتواصل، قالت إحدى الطبيبات:" توقعنا أنها ضربة واحدة ولكن زادت وتيرة القصف بشكل كبير، أحزمة نارية واشتباكات ورشاشات، إطلاق نار متواصل، أصوات سمعناها مسبقا وأخرى نسمعها لأول مرة، تراكضنا وابتعدنا عن الشبابيك وحاولنا إبعاد المرضى، أصبحت المستشفى أيضا مكانا مستهدفا وغير آمن، اكتظت أروقته بالجرحى والشهداء خلال ساعة لم يعد هناك متسع للجثث المتراكمة".
وبينما كان الاحتلال يحتفل بانتصار مزعوم اعتقد نتنياهو أنه ربما يكون ورقة في يده لإطالة أمد هذه الحرب، حرر أربعة من أسراه، وقتل ثلاثة آخرين، واغتالت طائراته 270 مواطنا أعزل كان ذنبه أنه تواجد في المكان، ولكن حسابات نتنياهو كانت خاطئة، ولم يعد يستطيع إقناع مجتمعه الداخلي بأن القتل وسيلة ناجحة لتحرير أسراه، بدأت الاستقالات داخل وزارته، وذكّره مجتمعه الداخلي والعالم الدولي بأن طريقة القتل التي يمارسها هذا السفاح لم تعد مقنعة، وبأن ما فعله لم يكن إنجازا كما توقع.