الرسالة نت- رشا فرحات
قد يكون ما نرى غرابة، وربما إعجازا، لكنه في كل الأحوال صبر لا يكاد يحتمله عقل بشر، فرغم ما يحدث في قطاع غزة من مجازر إلا أن التحدي لا زال ثابتا على نفس الوتيرة من الإصرار، الذي لا يحتمل عقل تفسيره في كثير من المرات.
فقد أعلن قبل يومين تخريج 500 حافظ لكتاب الله ضمن مشروع صفوة الحفاظ استكمالا للمشروع الذي بدأته غزة منذ عامين لتشجيع حفظ القرآن الكريم، ودأبت على تخريج فوج تلو الفوج، صغار وكبار جاؤوا ليتزاحموا أمام المحفظين ليحجزوا لهم مكانا في الجنان كمقاومين صامدين، حيث تشكلت لجان الحفظ في إحدى مدارس الإيواء في شمال القطاع.
ولكن هذه المرة يتخرج هذا الفوج من المكان الأكثر صمودا، من الشمال الثابت والجائع، بين قلة الطعام واشتداد الحصار الإسرائيلي، وأصناف الموت التي لم نر لها سبقا، يخرج هؤلاء كعنقاء مصرة على الحياة والتحدي.
صفوة الحفاظ، يأتي تتويجًا لجهود مستمرة منذ سنوات عكفت فيها دار القرآن الكريم والسنة -الجهة المنظمة للمشروع- على تخريج جيل قرآني متمكن حفظًا وتلاوة وفهمًا، حيث تخرج دار القرآن الكريم سنويا 1000 حافظ لكتاب الله .
وهكذا جاءت رشا عياد، وهي طفلة لم تتجاوز 11 عاما، ترتل ما تيسر من القرآن الذي حفظته، وتصر على المشاركة، ولكن هذه المشاركة تبدو غريبة هذه المرة، ليس لأن رشا طفلة، ولا لأن الظروف التي تعيشها صعبة في ظل هذه الحرب، بل قد تكون مستحيلة، ولكن لأن هذه المشاركة جاءت بعد يومين من خروج رشا وأخوتها وأمها من تحت الأنقاض.
أجل، بعد خروجها من تحت الأنقاض بيومين، وفوق حجارته، ورغم إصابتها تكمل طريق القارئين المرتلين الذي يعجز كثير منا عن تفسير بركته التي تحل بصاحبها واقتران قلبه بما رتل وحفظ.
ففي العاشر من حزيران، وعند منتصف الليل قصفت طائرات الاحتلال منزل رشا الكائن في البلدة القديمة في مدينة غزة وتكومت الحجارة فوق أجسادها وعائلتها، تقول والدتها: "تخيل وأنت بدك تنام ع مخدتك بأمان الله، ضوت الدنيا فجأة، وصرت بزاوية الحيط وجبال حجار حواليك وما في أي صوت نهائيا".
وتشرح الوالدة التي أبدت استغرابها من خروجهم أحياء بعد هذه الليلة:" يعني صرت بقبر صغير، آه والله متل ما بحكيلكم قبر صغير كتير ومش قادر تتحرك والحجارة محصراك من كل الجوانبـ، وصرت تستنى الملائكة علشان تتحاسب، آه والله العظيم هالشعور حسيته مبارح".
وتكمل: "أخرجوني من تحت الأنقاض وبدأت أبحث عن أولادي.. رحنا ع غرفة الأولاد أحمد نايم هنا، ورشا هنااك، أحمد يا قلبي خايف يصرخ يدخل الحجارة بتمه طلعوه ولسة عايش وواعي يا الله كيف شعوره كييف، بلشت رحلة البحث عن رشا وهي الأصعب والكل مترقب لحد ما طلع صوووت هيها وحملوها بين ايديهم وصرخ واحد لسة عاااايشة ياااا الله عااايشة".
وهكذا ولدت العائلة من جديد كما تقول والدة رشا وأحمد وأكملوا الحياة فوق ركام البيت المهدم، يعاني كل منهم إصابة طفيفة، ورشا هي الأسوأ حيث تعاني كما أخبرنا خالها عاصم النبيه من رضوض في كافة أنحاء الجسد بالإضافة إلى كسر في القدم ولكنها لا زالت على عنفوانها وإيمانها العميق وقد سردت ما تيسر من حفظها للقرآن الكريم.
وتنتمي رشا لعائلة مبادرة وعاكفة على حفظ القرآن الكريم، حيث شاركت في السرد هي وشقيقها الذي يكبرها بعام واحد، والدتها طالبة الدكتوراه ومعلمة في أحد المدارس في قطاع غزة، وللطفلة الصغيرة المتفوقة تجارب في الكتابة والإبداع بالإضافة إلى إصرارها على حفظ القرآن الكريم رغم الحياة المليئة بالخوف والجوع التي يعيشها القطاع منذ ثمانية أشهر، ولكنها ترسل للعالم من قلب طفولتها رسالة: "من كان القرآن رفيقه، لا جاع ولا خاف ولا انهزم".