الرسالة نت- رشا فرحات
لم تكن المرة الأولى، ولكنها مرة جديدة، يتكرر المشهد وكأن الموت أصبح رفيقا دائما يسير إلى جانب الغزي، يرافقه في صلواته وحركاته صباح مساء، مصنوعا على يد آلية الحرب الإسرائيلية، التي قدمت للعالم أبشع فنون القتل والتمثيل في أجساد المدنيين الفلسطينيين المشردين في شوارع قطاع غزة منذ عشرة أشهر.
بدأ الصباح ثقيلا كسابقه في مواصي خان يونس، أو لسخرية التعابير – المكان الآمن- الذي طلب الاحتلال من المواطنين النزوح إليه من بيوتهم في رفح وغزة والشمال، ثم ركض خلفهم بطائراته.
لطالما ردد الاحتلال في بداية هذه الإبادة بأن أحد أهدافه هو تغيير ديمغرافية قطاع غزة، قتلا إن لم يحقق هدف تهجيرهم، وفي كل يوم يثبت أنه سائر على هذا النهج، من خلال مجازر منظمة يحاول أن يخلق لكل منها رواية ما بعد القتل فيتفرج العالم ويستمع بصمت، ويفهم أهدافها بدقة، ثم يدعي الإنسانية الكاذبة ويلتزم الصمت.
فجأة ودون سابق إنذار وفي المكان المكتظ بالنازحين في منطقة المواصي غرب خان يونس، يسقط الاحتلال 300 طن من المتفجرات، فتتناثر الأجساد في الأمكنة وفوق الخيام، وتختلف روايات القتل، الحديث يدور عن عملية إنزال، ثم يروج الاحتلال فكرة عملية اغتيال لقادة في حركة حماس، مبرر جاهز لقتل 90 مدنيا، كانوا يفترشون الأرض هربا من حرارة الخيمة، ومنهم من يفترش الأرض ببعض بضائع يبيعها للمارة.
يتراكض الناس شرقا وغربا، صورة مصغرة من يوم الحشر، الذي ينتظره سكان غزة بفارغ الصبر لينهي سلسلة القتل التي تمارسه (إسرائيل) كهوايتها المحببة، ويأخذ كل ذي حق حقه بأمر الله.
ارتقى 90 شهيدا معظمهم من الأطفال والنساء الجالسات حول خيامهن، في مجزرة ليست الأولى، وليست المواصي هدفا وحيدا، ولكنها في الأشهر الأخيرة أصبحت هدفا متكررا، فهي المنطقة الأكثر ازدحاما، تتناسب مع أهداف المحتل من هذه الإبادة.
امرأة تسير خلف المجهول، تبحث عن طفليها:" ربيتهم كبار، بنتي صارت تسع سنين، يارب أنا صابرة، لكنه ابتلاء صعب" ثم تطلق صرخة في فضاء الظلم المحيط بها، تلحقها أم ثكلى، تنتشل أبناءها الأربعة من تحت الخيام، وتضحك، لقد فتح لي بابا إلى الجنة، أنهم أربعة شهداء" بينما يصف نازح المشهد:" فجأة سقطت الخيمة مع صوت القصف المرتفع، من أنقذ؟! أمي أم أبنائي، خرجت فوجدت الشهداء متناثرين حول الخيام، رجال مسنين، أطفال، نساء، الدماء في كل مكان، على الأشجار المتبقية، وعلى الأرصفة، كلهم مدنين".
300 جريح نقلوا إلى ساحات المستشفى الكويتي، وما تبقى من مستشفى ناصر، الذي أعلن توقفه كليا عن العمل، وملأت الأجساد المقطعة أروقة المستشفى، وتراكض الأطباء حائرين في تضميد جروح لا دواء لديهم لعلاجها، ولا إمكانات، ولا كهرباء لتدير دفة العمل، ولا أدوية في قطاع غزة تعطى لجريح يئن بينما تمدد الشهداء التسعون، عند الجدران، ملفوفين بصرخات محبيهم حولهم .
رجل يحمل هاتفه النقال بيد، ويحتضن شهيدا في اليد الآخر، ويكلم والد الشهيد الممدد بين يديه، أب أصر على البقاء في شمال غزة، يطلب منه أن يودع ابنه النازح جنوبا قبل دفنه، فصل عنصري آخر، دفع ثمنه النازحون جنوبا والباقون في بيوتهم شمالا، كان بطله الموت الذي ترسله الطائرات الإسرائيلية فيحرم الأب من طبع قبلة الوداع على جبين ابنه الذي قتلته قبل لحظات.
تذرع الاحتلال كثيرا، ونقلت الذرائع قنوات عربية، وشخصيات تدعي أنها وطنية، تصيغ بكل ما أوتيت من وقاحة مبررات لقتل الفلسطيني بدم بارد، تدعي أن محمد الضيف كان مختبئا في مواصي خان يونس بين اللاجئين، فما هو مبرر مجزرة الشاطئ التي ارتكبها الاحتلال في نفس الدقيقة.
في مخيم الشاطيء شمالا، وفوق ركام المسجد الأبيض، كانوا يصلون في مسجد صنعوا جدرانه بأيديهم فيما تبقى من شوادر بلاستيكية وقطع قماش مهتئة، ومع تكبيرة الإحرام، بدأت الطائرات تحلق كعادتها، دون أن يكترث لها المصلون الذين وقعوا معاهدة مع الموت كخيار وحيد لاستمرارية الحياة، وكسروا قاعدة الخوف منه.
ومع سجدتهم الأولى، أطلقت عليهم صواريخ الطائرات فارتقى عشرون من الساجدين وقد عرفوا أن الموت هو قبلتهم الحقيقية، تحول المشهد المهيب إلى صرخات، سقطت الشوادر البلاستيكية التي كانت تظللهم، وتحتها اختلطت الأجساد حينما تحولت إلى قطع متناثرة على الأرصفة، ولم يكن هناك حجة قتل جديدة حتى يسوقها نتنياهو إلى العالم!
حفرة عميقة يشير إليها المصلون الناجون من الموت، ودماء متناثرة على جواب المصلى الذي نصبوه بديلا عن مسجدهم المدمر، بينما يتساءل ناج:" العالم كله بيقتل فينا، ليش؟!".