الرسالة نت- رشا فرحات
لعل من أصعب التجارب التي خاضتها النساء في غزة هي الولادة بكل تفاصيلها وفي ظل منظومة طبية منهارة، ترتجف النساء كلما فكرن باقتراب الموعد، بين احتياجاتهن الخاصة المحرجة، وافتقادهن للأمكنة المناسبة لامرأة خارجة للتو من تجربة الولادة، بجسد منهك من الخوف والنزوح يحتاج إلى الدفء وتغذية متكاملة تعينه على احتضان رضيع جديد وتوفير كفايته من الرضاعة.
الركض والألم
إلى الخيمة من كلية الصناعة نزحت أم توفيق مع عائلتها، وهي حامل في شهرها التاسع :" فجأة وجدت نفسي أركض تحت وابل القذائف، بينما تحاصر الدبابات كلية الصناعة حيث نزحنا في خان يونس، أجر أطفالي الخمسة والسادس أحمله في بطني، ثقيلة متألمة في جوف الليل، وأنا أبكي خوفا على كل شيء، بينما تركت وزوجي كل ما نملك من متاع وأغطية خلفنا وهربنا بأبنائنا"
تضيف:" وصلت إلى رفح مع نهاية يناير البارد، بجسد منهك، ووجه لم يعرف النوم لساعات طويلة، لا ملابس معي، ولا أغطية، وتدبر زوجي أمرنا بعدما جلسنا في الشارع لأربع وعشرين ساعة ننتظر أن يقدم لنا أحد خيمة، وحينما نصبنا الخيمة في العراء كان الجو باردا، وما أن أسدل الليل ستاره حتى أغرق المطر المنهمر خيمتنا، فتبلل أطفالي وارتجفوا، وأنا غرق كل جسدي بالماء البارد، ما تسبب بإصابتي بالحمى، وباغتتني بعدها أوجاع الولادة، ولادة قبل موعدها بثلاثة أسابيع، وذهبت وأنا محمومة إلى المستشفى الإماراتي في رفح".
بعد ولادة مليئة بالدموع والخوف وتحت أصوات القذائف نجت أم توفيق ومولودتها، ولفتها بغطاء كانت قد صرفته لهم منظمة اليونسيف، فهي لا تملك ثيابا، ولا يوجد في الأسواق ثياب للمواليد، فعملت شقيقتها على سؤال الناس والبيوت المجاورة عن ثياب للمولودة، تقول:" لم أكن أتخيل أن أتسول ثيابا يوما لأدفئ جسد مولودتي، أو أن أخرج إلى خيمة بعد ولادتي، أو أن لا أجد أي طعام أقاوم به كل الضعف الذي حدث نتيجة عملية مخاضي، لا أعرف كيف لا زلت حتى اللحظة على قيد الحياة، وأنا أنظر إلى طفلتي التي كبرت وتضحك في وجهي الآن، أقول لها وأنا منتصرة:" لقد نجونا يا حبيبتي بإعجوبة"
دون فراش أو غطاء
وللزميلة ولاء الجعبري تجربة مشابهة، مع ولادة يلفها الوجع والنزوح والخوف بكل أشكاله، تقول:" تخيل أن تنام على أرضية غرفة الإيواء دون وجود ما يحمي جسدك من بلاط الغرفة، دون فراش أو حتى غطاء ! يقيك من نسمات الهواء الباردة ليلاً خلال أكتوبر المنصرم! كم من الوجع سيلحق بعظمك، تتقلب يمينا وشمالاً، مرة على ظهرك وحينما تشعر بالإرهاق تعيد الكرة ثانية، أملا في أخذ قسط من الراحة.
تخيل أن امرأة حامل في شهرها الثامن عاشت ثلاثين يوماً على ذات الحال في الإيواء ! كم من البرد نخر في عظمها، كم من الوجع لحق بجسدها، كم من الإرهاق الجسدي والنفسي عانت ولا تزال؟!.
تحدثت ولاء كثيرا عن احتياجاتها كأم، واحتياجات طفلها التي لم تكن متوفرة بالأسواق، حليب وملابس وحفاظات للأطفال، كل ذللك كان مقطوعا أو نادرا بأسعار خيالية .
ثم تضيف ولاء:" أن يأتي المخاض بعد ثلاثين يوماً من الحرب، وأنا أقبع في إيواء مجمع الشفاء الطبي، لكن للأسف تم نقل طواقم الولادة لمستشفى آخر بسبب كثرة النازحين وتخصيص المستشفى لتلقي الأعداد المهولة من الإصابات والشهدا..
تحت القصف وفي وضح النهار، خرجت رفقة زوجي أحمل في حقيبتي "طقم الميلاد" الوحيد وبضع تمرات تسهل عليّ ألم المخاض، أصوات القذائف والصواريخ في كل اتجاه، والاسعافات لا يسكت صوتها على الإطلاق، قلبي يرتعش خوفاً حيث لا أمان هنا ولساني يلهج بالدعاء طيلة الطريق من مجمع الشفاء حتى وصلتُ أخيراً مشياً على الأقدام إلى مشفى الحلو الدولي. حينها تنفست الصعداء أن الحمدلله وصلت أخيرا بسلام، هذا الطريق الذي عددت خطواته واحدة تلو الأخرى اجتزته بقهر ودموع وصبرٍ واحتساب".
ثم نزحت ولاء إلى الجنوب مع أطفالها ومولودها، وحدها تأجرت "حاصلا" وسكنت وهي التي تحتاج لمكان ترتاح فيه حتى تمر أيام نفاسها، لم تجد حتى أدنى مقومات الراحة.
نصف ولادة
أما أن تلد امرأة نصف ولادة، ثم تظل على قيد الحياة، حتى تصل إلى المستشفى وتكمل ولادتها، فهذا شيء لا يصدقه عقل، وتلك تجربة تحدثت عنها صاحبتها، حيث كتبت الدكتورة زينات أبو شاويش عن تجربة الحمل والولادة، ولادة تعني حرفيا العودة من الموت :" كنتُ على موعد لأن أضع مولودتي الجديدة بعيداً عن بيتي المدمر وعن كل أشكال الحياة بما فيها الأمان بينما كنت أعتقد واهمة أني سأضعها بعد انتهاء الحرب!
شهر المخاض وصلته بعدما نزحتُ 11 مرة على الأقل ، قفزت من النوافذ مرة هروباً من طلقات "الكواد"، ومرة تسلقتُ مبنى مدمّرا بعدما حاصرتنا دبابات العدو للهروب منها، وأخرى قطعت مسافة أربع ساعات نزوحا من الغرب شرقاً بعدما باغتتنا آلياته اللعينة.
وتضيف: لا بأس، ها أنا أخوض تجربة ميلادها دون أن أهز جزع أي نخلة لأركن تحتها آمنة، كانت ليلة باردة جداً وماطرة كذلك، ملبدة بالطائرات الحربية، مُضاءة بضربات الصواريخ المتفجرة في سماء مدينتي التي لا تشبه إلاّ مدن الأشباح المرعبة.
بدأ المخاض تمام الساعة العاشرة ليلاً وسط الشارع وبدأ ميلادها في نفس ذات الوقت بعد الدقيقة الخامسة تماماً، في لحظات كنتُ أناجي الله أن ينظر إلينا بعين رحمته ولطفه وأن يحرسنا بعينه التي لا تنام.
بدا ميلادها بالمعجزة بعدما رد عليّ صدى صوتي في أرجاء الحارة الفارغة من أهلها نحو محافظات الجنوب، أطلقت مولودتي "نِعمة" صرخة الحياة بين يدي أبيها الذي نجح في قص الحبل السُري وإطلاق سراحها لتبدأ رحلتها مع الحياة دون غرفة مخصصة لاستقبالها ولا حتى سرير صمم خصيصاً لها، وبألبسة جهزتها لنا إحدى "الشهيدات" من بقايا معرض ملابس مدمر!.
لم ينته أمر الولادة هنا، فقد وصفت أبو شاويش رحلة إكمال ولادتها التي تجزأت إلى نصفين، نزول الطفلة في الشارع، وانهمار المطر، ومرافقة أمها وزوجها وابن خالتها الذي لف الطفلة في معطفه ليحميها من برودة المطر، ثم المشي في طريق طويل مظلم في منتصف الليل وصولا إلى مستشفى الصحابة حتى تساعدها الطبيبة في إنزال الخلاصة المتبقية في رحمها، في صورة تجسد المعنى الحرفي لانتزاع الحياة من أنياب الموت .
تكمل:" استقبلتني على الباب طبيبة قالوا لها أني أنجبتُ صغيرتي وأنا في الطريق.. سألتنا (انا واختي التي اشتد بكاؤها خوفاً عليّ) "مين الوالدة فيكم؟ " أجبتُها بكل هدوء وابتسامة واسعة كبيرة عميقة "أنا الحمدلله"، ابتسمت الطبيبة وأكملت لي رحلة الميلاد العحيبة لانتزاع الخلاصة من جوفي.
احتفظت الطبيبة بما حصل حتى الصباح، وما أن ودعتها سألتني بقولها "بدي أعرف سر ابتسامتك وانتي جاية من طريق مخيفة والدنيا مرعبة ومش عارفة مصير بنتك". استعدت ذات الابتسامة وأخبرتها "لأني شفت رحمة ربنا بعنيا ومسكتها بإيدي، رحمة ربنا تُرى بالعين المجردة يا دكتورة الحمدلله."
ووصفت تقارير الأمم المتحدة ما تواجهه النساء الحوامل والمرضعات من مخاطر صحية عالية بسبب عدم توفر الرعاية الصحية والتغذوية الكافية، وقالت الأرقام أن 76% من النساء الحوامل كن مصابات بفقر الدم، و99% يواجهن تحديات في الوصول إلى الإمدادات التغذوية والتكميلية بما يهدد صحة الأمهات والمواليد.
ومن بين الأسر التي تشمل أمهات مرضعات، 55% تحدثن عن ظروف صحية تعيق قدرتهن على إرضاع أطفالهن و99% يواجهن تحديات في تأمين ما يكفي من لبن الأم، بما يعرض للخطر بقاء الطفل على قيد الحياة ونموه وتطوره.
وتقدّر الأمم المتحدة أن حوالي 50,000 امرأة حامل تأثرت بهذه الإبادة، وعلى الرغم من حالة المستشفيات، إلا أن الأرقام تقول أن هناك 160 عملية توليد تقريباً كل يوم، ولادة من خاصرة الموت، تبشر بقدوم جيل سيحمل على أكتافه ذكرى إبادة لم يشهد التاريخ مثلها يوما.