هكذا استيقظت نوال إسماعيل الصبية العشرينية، على صوت إطلاق النار تجاه الخيام، التي بدأت تخترقها بين صرخات الناس وركضهم بغير هدف ولا قدرة على التخطيط، الرجال يصرخون" لا ترفعوا رؤوسكم، ازحفوا على الأرض"، وحينما استطاع معظمهم النجاة تحت وابل من الرصاص، ركضوا باتجاهات مختلفة، كل أم تمسك بيد أطفالها وتركض إلى وجهة منزل أحد الأقارب أو خيمتهم، وانتظروا في إحدى الزوايا بمنطقة المواصي جنوبي قطاع غزة بعيدا عن صوت الرصاص.
ثم مع بزوغ الفجر استطاعوا تدبر أمرهم والرحيل إلى منطقة الزوايدة وسط القطاع حيث أقاربهم، نامت النساء في المنزل مع الأطفال، وتمدد الرجال على أحد الأرصفة في الشارع لضيق المنزل، حتى انتصف النهار، وعادوا ليستكشفوا خيامهم التي مزقتها الرصاصات الكثيفة، فوجدوا متاعهم البسيط وقد سرقه اللصوص.
تلك قصة من يوميات النزوح والولع يعيشها أهالي قطاع غزة، نزوح لمرة، أو مرتين، ثم يصل إلى عشر مرات حتى حفظت رمال قطاع غزة صوت نعالهم، ووقع أقدامهم على الأرض.
وبالأمس أكد الناطق باسم الدفاع المدني في غزة الرائد محمود بصل أن غارات الاحتلال الإسرائيلي وعملياته قلّصت المناطق الآمنة في قطاع غزة من 240 كيلومترا مربعا إلى 35 كيلومترا مربعا.
وقال بصل إن الاحتلال الإسرائيلي يعمل منذ بداية حرب الإبادة على تهديد الفلسطينيين بالسلاح وإخراجهم من منازلهم ومناطقهم التي عاشوا فيها طوال حياتهم، وبدأ تحت القصف بدعوة الناس للخروج من مناطق شمال قطاع غزة، ثم انتقل إلى المناطق الجنوبية.
وبعدما كان الغزيون يعيشون على مساحة قدرها 240 كيلومترا مربعا، بات هناك تقليص واضح لهذه المساحة حتى وصلت إلى 35 كيلومترا مربعا، وهي مساحة لا تكفي سكان غزة، والمواطن داخل القطاع سواء في المناطق الجنوبية أو الشمالية، لديه فقط ربع متر واحد ليمارس حياته فيه، بعدما كان المواطن الواحد يعيش في مساحة قدرها من مترين ونصف إلى 3 أمتار، حسب ما قاله بصل، مضيفا:" أن الحرب والتقليص جعلا سكان غزة يعيشون في بقعة جغرافية ضيقة جدا بلا مقومات للحياة".
ولعل الكثير من العائلات لم تعد تطبق تهديدات النزوح لما يكلفها ذلك من مال وعناء بسبب الإرهاق وما يشاهدونه خلال رحلة النزوح، كما أنه لم يعد هناك أي مكان آمن في كل قطاع غزة إلا وقد استهدفه الاحتلال، المباني والمستشفيات والمدارس لم يترك أي منطقة إلى وعمل على تدميرها، وها هو يستهدف الأراضي التي ينصب فيها الناس خيامهم، فيأمرهم بالنزوح والعودة خلال أسبوع واحد ثلاث أو أربع مرات.
المحلل السياسي الدكتور رائد نجم علق في مقابلة مع الرسالة على أسلوب الاحتلال واستخدامه التهجير القسري بأنه عملية عقابية يحظرها القانون الدولي ويصر الاحتلال على استخدامها لزيادة أحداث المعاناة، وإذا تحدثنا عن الهدف من وراء ذلك فهو خلق بيئة طاردة من خلال تحريك الكتلة الديمغرافية بالأعداد الهائلة التي تصل إلى مليون و700 مواطن لتحقيق فكرة التهجير الطوعية.
الاحتلال يريد كي وعي ذاكرة الفلسطيني، لتكون مليئة بالمعاناة وصور القتل والتهجير وهذا قد يخلق دافعا قويا لدى البعض ممن يبحثون عن الأمن والآمان للبحث والسعي لمغادرة القطاع، نتيجة تجربة أحد عشر شهرا من المعاناة والقمع والنزوح المتكرر الذي لا يأتي عبثا من قبل الاحتلال ومخططيه الاستراتيجيون، على حد تعبير نجم.
ويؤكد نجم مضيفا:" يعمل مخططون ودارسون على فكرة النزوح كعقاب جماعي للنيل من قدرة الإنسان الفلسطيني على الصمود والثبات ودفعه لتغيير مواقفه السياسية وصموده وهي خطة ليست عبثية ونحن لا نتحدث عن أعوام، ومنذ استراتيجية الحسم التي تبنتها حكومة نتنياهو وهي أن يقبل السكان الفلسطينيون أن يعيشوا دون حقوق سياسية دون استقلال وسيادة، فإن من لا يقبل من الفلسطينيين أن يعيش على هذا الأساس فعليه بالهجرة وهو يفعل ذلك في الضفة أيضا، من خلال هدم البيوت وإطلاق العنان لعنف المستوطنين الممارس على الفلسطينيين في الضفة".
ليس النزوح المتكرر وحده ضمن هذه المنهجية، بل إن استهداف الاحتلال للنظام التعليمي والصحي وخلق بيئة مليئة بالأمراض، ثم العمل على قصف المواطنين ودفعهم للنزوح مرة شرقا ومرة غربا لتعجيزهم ومحاولة إدخال اليأس إلى قلوبهم، هذا طبعا بالإضافة إلى سياسة الحصار ومنع دخول الطعام والدواء، كلها أسباب تقع ضمن استراتيجية التهجير، على حد قول نجم.
من نزوح لآخر وسؤال واحد (وين نروح؟)
خاص- الرسالة نت