وكالات-الرسالة نت
رحل رمز الإسلام السياسي التركي من دون منازع، نجم الدين أربكان، أمس، تاركاً خلفه وضعاً إسلامياً ممتازاً في بلاده، وأقوى بكثير من ذلك الذي نظّمه الراحل في أحزابه الخمسة على مدى 4 عقود.
اختار «الخوجا»، صاحب الـ 85 عاماً، موعداً لافتاً للرحيل، عشيّة الذكرى الـ 14 لـ«الانقلاب الأبيض» الذي نظمه الجيش ضدّه في 28 شباط 1997. وكأنه رحل في هذا التوقيت لأنه لم يكن راغباً في تذكُّر الإذلال الذي لحق به في ذلك اليوم، وفي الأيام والأشهر والسنوات التي تلته، والتي أوصلته إلى أن يكون محكوماً بسرقة أشهر أحزابه، «الرفاه».
أربكان، الذي ظل لسنوات أبرز رجل سياسي إسلامي في العالم، انتهى به الأمر إلى أن يكون زعيماً لحزب أقل من صغير، هو «السعادة»، مع نائب واحد في البرلمان من أصل 550، في مقابل تلامذة انشقّوا عنه وأسّسوا حزبهم «العدالة والتنمية»، ويحكمون اليوم مع 334 نائباً.
رحل أربكان بصمت في مستشفى في أنقرة، وتحديداً عند الساعة 11:40 قبل ظهر أمس بعد نقص حاد بالتنفس. رحيل لم يكن مفاجئاً، إذ كان يرقد في المستشفى منذ نحو شهرين. وبذلك، تكون شخصية تركية تاريخية جديدة قد ماتت ميتة ربها، تماماً مثل مصطفى كمال وعصمت إينونو. في مقابل هؤلاء، عدنان مندريس، أول زعيم منتخَب في البلاد، مات شنقاً. نجم الثمانينيات، تورغوت أوزال، مات اغتيالاً على الأرجح في 1993. اغتيال يليق بصفته أنه كان مجسِّد الخط العلماني الحقيقي الذي لا يشبه النسخة الأتاتوركية، من ناحية الانفتاح على التيارات الإسلامية القريبة، وهو أوّل رئيس تركي يؤدّي مناسك الحج.
أمّا اليوم، فيبقى هناك 3 أسماء تاريخيّة، أصحابها أحياء: رمز حقبة النصف الثاني من الثمانينيات والتسعينيات، عبد الله أوجلان، الذي يعيش وضعاً صحياً غير مريح في سجنه الانفرادي المؤبّد، إضافة إلى الداعية الإسلامي فتح الله غولن المغترب في الولايات المتحدة، و«النجم» رجب طيب أردوغان طبعاً.
أربكان باختصار، أكثر الساسة الإسلاميين جرأةً، وأكثرهم مباشَرةً في تعاطيه مع إسلاميّته. ظلّ في سبعينيات القرن الماضي أبرز رجل تركي على الإطلاق، حاملاً اختراعاته في الهندسة الميكانيكية التي حققها في ألمانيا، إلى تركيا، مقبرة «اختراعاته» السياسية. فتلك السياسة كانت بالنسبة إليه أصعب بكثير من الاختراعات العلمية. في ألمانيا، حصّل الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية، وسجّل اسمه على براءة اختراع إحدى أشهر الدبابات الألمانية في 1965 «ليوبارد 1».
ولما عاد إلى بلاده أستاذاً جامعياً ورجلاً سياسياً في حزب سليمان ديميريل «العدالة»، قبل تأسيس أحزابه الخمسة في ما بعد، أصرّ على أنّه للوصول إلى الأهداف السياسية باب واحد يُطرَق: المجاهرة بالموقف مهما كان الثمن. هكذا، أخذ عليه تلامذته، حكام اليوم، من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول والآخرين، محافظته على خطاب واحد منذ 1970 حتى وفاته، وهو ما كان سبباً لفشله السياسي: لا البراغماتية كان يحبّها، ولا مراعاة ضرورات المرحلة والحصار العلماني ـــ العسكري ضد التيارات الإسلامية كان يعني له شيئاً، تماماً بعكس أردوغان ورفاقه.
وهنا، يحلو لبعض المقارِنين بين أربكان وأردوغان، استحضار الفارق الجوهري بين التيارات الإسلامية في كل من مصر والجزائر: فمثلما أنّ «الإخوان المسلمين» المصريّين يضعون نصب أعينهم هدف أسلمة المجتمع، بينما «إخوانهم» الجزائريّون استهدفوا أسلمة الدولة مباشرة، هكذا، فإنّ أربكان أراد إعادة الهوية الإسلامية إلى الدولة مباشرة، بينما رأى أردوغان أن الوسيلة الفضلى لإعادة الاعتبار للمسلمين الأتراك ولحقوقهم هي عبر إعادة الهوية الإسلامية للمجتمع.
ولكثرة التشدّد الاسلامي لأربكان، يرفض بعض الأتراك مقولة أنّ «العدالة والتنمية» هو حزب إسلامي، على قاعدة أن أحزاب أربكان (النظام الوطني، ثم السلامة الوطني، والرفاه والفضيلة وأخيراً السعادة)، هي الأحزاب الإسلامية «الحقيقية». لكنّ التشدُّد شيء، و«صرف» هذا التشدُّد في الإنجازات السياسية شيء آخر؛ هكذا، أمكن قراءة الانتقاد الأقسى بحقه في صحيفة «توداي زمان» التي كتبت عنه، في ما يشبه النعي، أمس، أنه «يؤخَذ عليه استسلامه بسرعة قياسية واستقالته إثر نشر الجيش دباباته في الشوارع في 28 شباط 1997».
ولدى المدافعين عن جرأة أربكان الإسلامي، وعن أحقيته بصفة الإسلامي التركي الأبرز على الإطلاق، الكثير من الأدلّة، وهو الذي أدخل أول امرأة محجبة إلى البرلمان التركي في 1999، وهو ما يمنعه الدستور والقانون التركيان.
كسرت مواقفه جميع الخطوط الحمراء لجمهورية مصطفى كمال: ـــ إسرائيل عدوّة المسلمين. ـــ العلمانية أداة لقمع الإسلام والمسلمين. ـــ الاتحاد الأوروبي نادٍ مسيحي وقيمه مسيحية مناقضة لقيم المسلمين. من هنا دعوته الشهيرة إلى إقامة اتحاد للدول الإسلامية (بدل الاتحاد الأوروبي الذي كان يصفه بـ«الخرقة البالية»)، ومجلس أمن إسلامي (بدل مجلس الأمن الدولي)، وعملة إسلامية موحّدة (بدل الدولار أو اليورو في ما بعد)، وصندوق نقد إسلامي (بدل صندوق النقد الدولي). ـــ إصراره على مشروع بناء مسجد كبير وسط ساحة «تقسيم»، رمز إسطنبول وعلمانيتها، وهي التي ستحتضن جثمانه غداً، رغم أن مسقط رأسه هو في سينوب على البحر الأسود. ـــ عدم زيارته أي دولة أوروبية، خلال تولّيه منصب رئاسة الحكومة لستة أشهر (حيث كان أول رئيس حكومة إسلامي في تاريخ الجمهورية التركية)، وحصر علاقاته الدولية بدول إسلامية زارها وعزّز علاقات تركيا بها، كإيران ومصر وماليزيا وليبيا.
ومن إنجازاته الإسلامية، تسجيل ارتفاع قياسي في عدد معاهد «إمام خطيب» الدينية في عهد مشاركة حزبه «السلامة الوطني» في الحكم. كان عدد هذه المعاهد، التي تُخرِّج الأئمة، 72 في 1972، فوصل إلى 339 في 1979، وذلك خلال فترة تولّي الرجل منصب نائب رئيس الحكومة في عهدي بولنت أجاويد وسليمان ديميريل. ولا يزال أتباع أربكان يتفاخرون حتى اليوم بأن زعيمهم عزّز من مكانة وزارة الشؤون الدينية ورفع موازنتها على نحو هائل، وأنه هو مَن أرسى الأرضية التي تسمح لأردوغان ورفاقه حالياً، بالحكم بقوة في وجه العلمانيين والعسكر.
يكفي أتباع أربكان والحريصين على عدم «سرقة أحقيته بكونه أبرز زعيم إسلامي»، التذكير بأن زعيمهم تحمّل أشرس حملة في تاريخ تركيا ضد التيارات الإسلامية. حملة طالت كل شيء: ـــ حظر حزبه، ومنعه من مزاولة العمل السياسي، وسجن قادته (بينهم أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول في حينها)، ومنع الطالبات المحجبات من التعلُّم في الجامعات، وإغلاق الصحف الإسلامية، والتشديد على مضامين خطب أئمة المساجد. كل ذلك إضافة إلى التضييق على المتخرجين من معاهد «إمام خطيب» من ناحية منعهم من تولّي وظائف حكومية...
رغم كل ذلك، لم يصل يوماً إلى حصد غالبية نيابية كبيرة مثلما حصل مع «العدالة والتنمية» في ما بعد، وهو ما يرى كثر أنّه سبب الحقد الأعمى لأربكان على تلامذته السابقين: تمكّن التلامذة من إنجاز ما عجز عنه الأستاذ. وفي هذا السياق، يجمع المتخصّصون في الشأن التركي، على أنّ فشل الدكتور أربكان لم يكن سوى نتيجة تعنُّته وإصراره على الوصول الى أهدافه من خلال مواجهة «الدولة» بأجهزتها كلها. فحياة الرجل كانت عبارة عن مواجهات متواصلة مع حماة العلمانية، من الجيش والقضاء وحزب أتاتورك (الشعب الجمهوري)، من دون أن تشهد مسيرته على أي حقبة من المهادنة.
وعن هذا الموضوع، يجري الدكتور محمد نور الدين مقارنة بين سلوكَي أربكان وتلميذه أردوغان، ليخلص إلى أن «الفشل» كان حتمياً بالنسبة إلى أربكان، والنجاح طبيعياً لأردوغان الذي بدأ مسيرته السياسية بتشدد يتجاوز أربكان بأشواط، قبل أن يفهم أن النجاح مكتوب للالتفاف لا للمواجهة، وللبراغماتية لا للتصلُّب.
البدايات
بدأ أربكان، الإسلامي النقشبندي الهوى، حياته السياسية الفعلية عام 1969 بفوزه بمنصب نيابي عن مدينة قونية مستقلاً، بعد انشقاقه عن حزب ديميريل، «العدالة». ولم يكن مر وقت طويل على عودته من ألمانيا، حين جمع كل قناعاته السياسية (الإسلامية) و«نظرياته» الاقتصادية (التنموية التصنيعية الليبرالية) في كتيّبه الشهير الذي نشره في 1969 بعنوان «ميلي غوريش» (النظرة الوطنية). وسرعان ما تحوّل «ميلي غوريش» من عنوان كتيّب إلى اسم لأكبر جمعية مثّلت ولا تزال أتراك أوروبا، إذ كانت تضم في 2005 نحو 87 ألف عضو، 50 ألفاً منهم في ألمانيا وحدها.
أبرز ما يميز إسلامه أنه يجمع بين التحديث الاقتصادي والقيم الأخلاقية والتقليدية الإسلامية المحافظة. حاول ترجمة «نظريته» بأول أحزابه عام 1970، «النظام الوطني»، الذي لم يعش أكثر من عام واحد، إذ حُظر فهرب مؤسّسه من البلاد، ليعود في 1972 ويؤسّس «السلامة الوطني». فاجأ الجميع بنيل حزبه في انتخابات 1973، 8.11 في المئة من الأصوات، ما أجبر «الشعب الجمهوري» على التحالف معه في 1974، ونيل أربكان منصب نائب لرئيس الحكومة (أجاويد) في حينها. وبعدها في عامي 1975 و1977 تكرر الأمر مع ديميريل.
ظلّ الرجل يصارع العسكر في ما يشبه معارك كر وفر وحظراً مستمراً لأحزابه، إلى أن حانت نهايته السياسية: الانقلاب الأبيض عليه الذي لم يشهد العالم له نظيراً ربما، وهو ما تعكسه الأدبيات الغربية بوصفه أنه «post modern coup detat». نهاية مأسوية بما أنّ نجمه أفل بالكامل رغم بقاء آخر أحزابه (السعادة) على قيد الحياة.
لم يتحمّل الرجل الثمانيني أن ينجح تلامذته بما فشل فيه هو، فختم حياته بتصنيفهم، أردوغان وغول تحديداً، وحزبهما، في خانة «عملاء الحركة الصهيونية». ورغم ذلك، ظل الأبناء أوفياء لأستاذهم السابق: في أيلول 2008، أصدر الرئيس غول عفواً رئاسياً خاصاً عن أربكان المحكوم بالإقامة الجبرية بسبب تهمة سرقة مليون دولار من أموال حزبه «الرفاه»، إثر حظره قانونياً. أما أردوغان، ففي كل مرة كان يُسأل فيها عن المواقف العدائية لأربكان ضده وضد رفاقه، ظل يرفض التعليق بأي كلمة ضد المعلم والأب الروحي.
أغلب الظنّ أنّ أردوغان وغول سيحضران مراسم دفن أربكان في إسطنبول غداً، وقد يتمتمان ضمناً ما مفاده: لا تحزن، فالحركة الإسلامية لم تمت من بعدك.
نقلا عن الأخبار اللبنانية