إن علم النفس التحرري هو نهج ثوري في علوم النفس، يتجاوز حدود العلاج التقليدي ليركّز على معالجة الجذور الاجتماعية والسياسية للظلم والقهر.. يُعدّ هذا العلم استجابة مباشرة لمعاناة الشعوب المستعمَرة والمضطَهدة، حيث يسعى إلى تحرير العقل والنفس من الآثار المدمرة للاستعمار والاحتلال.
في فلسطين، حيث يعيش الشعب تحت وطأة الاحتلال، يُصبح علم النفس التحرري ضرورةً ملحة لمواجهة الظلم وآثاره النفسية والاجتماعية. وهذا النهج لا ينحصر في الأبعاد النفسية الفردية فقط، بل يرتبط بعمق مع النضال من أجل الحرية والعدالة في المجتمعات التي يحيا فيها الإنسان.
في فلسطين، تبرز المبادئ الإسلامية كركيزة أساسية تعزز هذا النوع من التحرر.. فالإسلام، بتعاليمه التي تدعو إلى العدالة والمساواة ورفض الظلم، يتلاقى مع أهداف علم النفس التحرري في بناء مجتمعات مقاومة تسعى إلى الكرامة والتحرر من كافة أشكال الاستبداد. إن الدين الإسلامي يحمل في طياته رسالة تحررية شاملة، تمتد لتطول جوانب متعددة من حياة الإنسان، بدءًا من تحرير الروح والنفس إلى تحرير المجتمع من الظلم والاستبداد.. هذا البعد التحرري يُعد أساسيًا في الإسلام، ويُسهم في بناء الأفراد والمجتمعات على قيم العدالة والكرامة، وتحمّل مشاق المقاومة ضد الظلم.
وكمختصة في الطب النفسي، لا أستطيع أن أتفهم صمود وثبات وتحمل المجتمع الفلسطيني لكل ما يحيطنا من تحديات دون إدراك الدور المحوري الذي يؤديه الإسلام في ثقافة المجتمع؛ فتمجيد الشهداء وأمل اللقاء مع الأحبة في الآخرة يساعد الناس على تحمل الخسائر والفقدان، عندما تعجز أدوات الطب النفسي وكافة العلاجات على التخفيف من ألم هذه الإصابات النفسية البالغة.
إن البعد التحرري في الدين الإسلامي يشكل ركيزة هامة لنشوء علم نفس تحرري، يركز على معالجة أسباب وآثار الظلم على الصحة النفسية؛ فالإسلام دين يُعلي من قيمة الكرامة الإنسانية، ويُدافع عن حرية الإنسان في جميع مستوياتها. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {ولقد كرَّمْنا بني آدم} (الإسراء: 70). هذه الآية تعكس حقيقة أن الكرامة الإنسانية تشكل جوهر رسالة الإسلام، فلا يجوز انتهاكها تحت أي ظرف.
جاء الإسلام ليحرّر الإنسان من كافة أشكال العبودية، ليس فقط على المستوى الجسدي، بل يتجاوز ذلك ليشمل التحرير الفكري والنفسي. ويُعدّ تحرير النفس من القيود والضغوط النفسية جزءًا لا يتجزأ من الرسالة الإسلامية؛ حيث يحثّ القرآن الكريم على التحرر من الخوف والتبعية للظالمين، ويشجع المؤمنين على الاعتماد على الله والثقة بالنفس. يقول الله تعالى: {فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175). هذه الآية توجه المسلمين إلى التخلص من الخوف النفسي الذي قد تزرعه فيهم قوى الظلم، وتؤكد أن الخوف الحقيقي يجب أن يكون من الله وحده، ما يفتح بابًا لتحرر النفس من الاستعباد.
كما أن المسلم يعتبر مقاومة الظلم واجبًا دينيًّا وأخلاقيًّا.. في سورة النساء، يأمر الله تعالى المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة بالحق حتى في أصعب الظروف: {يا أَيُّها الّذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء للَّه ولو علىٰ أنفُسكم} (النساء: 135)؛ تضع هذه الآية على عاتق المسلمين مسؤولية كبيرة لتحقيق العدالة ومناهضة الظلم.
كما قد أكّد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، هذا المبدأ في قوله: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (رواه الترمذي)؛ إذ يعزز هذا الحديث النبوي فكرة أن الجهاد ليس فقط بالسلاح، بل يشمل أيضًا مواجهة الطغيان والاستبداد بالكلمة وباتخاذ موقف ضد الظلم، وهو ما يمكن أن يكون حجر الزاوية في علم النفس التحرري.
الإسلام كثورة على الهياكل المجتمعية في الجاهلية
عند بعثة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، كانت الجزيرة العربية تعيش في ظل هياكل اجتماعية صارمة وقاسية، تتسم بالتمييز الطبقي، والاستغلال الاقتصادي، والاضطهاد العرقي، والعنف القبلي. كانت تلك الهياكل تعزز من سلطة النخبة وتعتمد على استعباد الضعفاء واستغلالهم، فجاء الإسلام ليثور على تلك الهياكل الاجتماعية، ويؤسس مجتمعًا جديدًا قائمًا على العدل والمساواة.
كانت أبرز مظاهر الثورة الإسلامية في تحطيم الفروق الطبقية والقبلية، حيث أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى" (رواه أحمد).. لقد قام هذا الإعلان الثوري بهدم هياكل التمييز الاجتماعي في الجاهلية ووضع الأسس لمجتمع يقوم على المساواة بين جميع البشر.
كذلك ثار الإسلام على العبودية، حيث جعل التقوى والعمل الصالح هما المعيار الحقيقي لقيمة الإنسان، لا حسب نسبه أو طبقته الاجتماعية. جاء في القرآن الكريم: {فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 13) كأحد الأعمال التي تقرّب الإنسان إلى الله، إذ لم تكن هذه الثورة الاجتماعية تحريرًا ماديًّا فقط، بل كانت تحريرًا نفسيًّا وفكريًّا، فحرّرت العقول والقلوب من أغلال التمييز والظلم.
لقد أظهر العديد من قادة الإسلام كيف يمكن للإسلام أن يكون قوة دافعة للتحرّر من القهر والاستبداد، وأن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو رسالة تحررية تدعو إلى العدالة والمساواة والتضامن مع المظلومين.
كيف نفهم مقارعة الفلسطينيين للاحتلال رغم اختلال موازين القوى، ودافع الصبر على الخسائر والفقدان؟
في الإسلام، نرى أن للدعوة إلى الوقوف ضد الظلم والتصدي له حضورًا واضحًا في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ إذ تشدد النصوص التالية على رفض الظلم، وتحثّ الناس على الدفاع عن حقوقهم وحقوق الآخرين المستضعفين.
ففي سورة النساء، الآية 75: {وما لكم لا تُقاتِلون في سبيل اللَّه والْمستضعفين من الرِّجال والنِّساء والوِلدان الَّذين يقولون ربَّنا أخرجْنا من هذه القرية الظَّالِمِ أهلُها واجعل لنا من لَدُنْكَ وَلِيًّا واجعل لنا من لَدُنْكَ نصيرًا}. وفي سورة الشورى، الآية 39: {والَّذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}.. تشير هذه الآية إلى أن المؤمنين مكلفون بأن ينتصروا لأنفسهم عندما يتعرضون للظلم. وتحذر سورة هود، الآية 113 من الميل إلى الظالمين أو التحالف معهم: {ولا تركنوا إلى الَّذين ظلموا فَتَمَسَّكمُ النَّار}.
وتبقى قصة فرعون وسيدنا موسى عليه السلام رمزًا للصراع بين الحق والباطل، وهي واحدة من أشهر القصص القرآنية التي تحمل العديد من العبر والدروس حول الظلم، والطغيان، والصبر، والإيمان بالله. تتكرر تفاصيلها في العديد من سور القرآن الكريم، وأبرزها في سورتَي {القصص} و{طه}.. وفي الآية {اذهب إلى فرعون إنّه طغى} (سورة طه، الآية 24)، يعكس هذا التكليف الإلهي مبدأً ثوريًّا يتمثل في ضرورة مواجهة الظلم والفساد، حتى لو كان الظالم من أقوى الحكام وأكثرهم سطوة.
فمواجهة الظالم هي مسؤولية أخلاقية وروحية، وهذا الموقف يتطلب شجاعة وثقة في أن الحق يجب أن يعلو على الباطل. يأمر الله موسى، أن يواجه أكبر طاغية في عصره. هذا يعني أن القوة الحقيقية تكمن في الإيمان وليس في الجبروت والقوة المادية، وأن الإصلاح لا يأتي بالتواطؤ أو السكوت على الظلم، بل من خلال العمل الجريء والمباشر لتغيير الواقع.. تحمل الآية في سياقها رسالة مفادها أن مواجهة الطغيان والظلم جزء لا يتجزأ من رسالة الأديان السماوية، وأن التغيير يبدأ من التحدي، مهما كانت المخاطر.
في الختام، فإن الإسلام ليس مجرد مجموعة من الطقوس الدينية، بل هو منظومه نفسية تحوّل الإيمان إلى عمل وحركة تحررية تستنهض الهمم في مواجهة الطغيان. فالتاريخ الإسلامي حافل بنماذج مشرّفة لقادة واجهوا الطغاة بقوة الإيمان وشجاعة الموقف، وما زالت تلك القيم حية اليوم في نضال الشعوب المقهورة. وفي الوقت الذي يُكبل فيه البعض بالخوف والخضوع، يبقى الإسلام مصدرًا لتحفيز النفوس على التحرر والمقاومة، ليبقى الحق راسخًا، والعدالة هي الهدف الأسمى الذي يستحق كل تضحيات الحياة.