اعتاد هذا العالم موته ولكن ابن غزة لم يعتد، وفي كل مرة يداوي الوجع، يضربه الاحتلال (الإسرائيلي) في مقتل آخر، فينهض ليكمل طريق الثبات، ويخبر العالم بأنه شعب يستحق الحياة من جديد، حتى لو لم يعطه العالم هذا الحق.
ففي الساعات الأولى من هذا اليوم وبشكل مفاجىء، استهدف الاحتلال مدرسة الزيتون ج بمدينة غزة، بقصف مباشر، نساء وأطفال تناثرت أشلاؤهم على أسوار الصفوف ونوافذها المهدمة، وفي الباحات وعلى الأبواب، بدأوا بالعد، ثلاثة عشر طفلا وست نساء، امرأة حامل خرج جنينها نتيجة الانفجار تاركا أمه أشلاء في باحة المدرسة، ثم يأتي رجال الدفاع المدني ويرفعونه بين أيديهم، حفنة من لحم يلمع.
وفي مستشفى المعمداني، أتى شاب يسوق دراجة مسرعا، يعلق خلفه صندوقا، يحمل فيه جسدا صغيرا لم يتجاوز العام، فقدت أمه ولا يعرف سوى أنه وجده ملقى على الأرض، فيه بعض من أنفاس، فأحضره مسرعا.
سيارات الإسعاف شحيحة، خيارات الإنقاذ أمامها صعبة ومستحيلة، ورجالها أنهكت أجسادهم، بينما تمزقت أيدي رجال الدفاع المدني جراء الحفر بمعاول بدائية الصنع، وأجهزة منهكة، وهم يلاحقون من قبل الطائرات التي تقتل الفلسطيني، وتقتل من ينقذه!.
عشرات المصابين يتراكضون بين الصرخات، معظم المجروحين هم أطفال غزة، مبتوري الأطراف، محترقي الأجساد، المشهد المتكرر في قصف مركز الإيواء رقم 181.
ثم يلقي الجيش بيانه منسوخا عن بيان آخر: "هناك مجمع قيادة موجود في داخل المركز" فلا تجد بين الضحايا سوى مدنيين، آباء وأمهات، وكل أطفال المركز الذين كانوا يلعبون قبل دقائق، وعشرات علامات التعجب والاستفهام، من ذلك العالم الذي يسخر الاحتلال منه كل يوم ويمارس قتلنا كهواية وهو يتفرج!!.
المشهد من داخل الوجع يفتح الجراح التي لم تبرأ، امرأة تنادي على شاب يجمع الأكياس، تمد له وجه مرتبة فارغ، قماش مخاط على أربع جهات، تفتحه فيتحول إلى كيس، كبير كفاية لتطلب منه:" اجمع أشلاء الأطفال وضعهم في وجه الفرشة".
وهكذا رتبت القطع الصغيرة جدا، والتي لا تدل أي منها على صاحبها، فاختلط الأطفال مع بعضهم البعض، في مشهد واحد، مشهد يتكرر للمرة الألف، صرة ثقيلة حملها أحدهم فوق ظهره، دون أن يسمح لأم لا زالت على قيد الحياة بأن تبحث في أعماقها عن بعض من أجزاء طفلها، فتدفنه كما ينبغي لها أن تفعل، أو أن يحظى أحدهم بقبر مناسب لجسد مكتمل، فحتى القبر أصبح في غزة حلما !!.
مجزرة مدرسة الزيتون لم تكن الأولى، ولن تكون الآخيرة، فهي معركة الوجود على الأرض التي فضل أهالي غزة أن يخوضونها بثبات حتى الرمق الأخير، وحدهم، حيث يحملون جثامين أحبتهم، يلفونهم في أكفان بيضاء، تتشرب الدماء فتظهر البقع فوق السطح، بينما تشير صبية جالسة بين الأجساد الممددة:" من تبقى لي، كلهم رحلوا !".
وحول ذلك، أدان المكتب الإعلامي الحكومي المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في مركز إيواء مدرسة الزيتون ج ، والتي راح ضحيتها 21 شهيدا، بينهم 13 طفلاً و6 نساء وبينهم جنين عمره 3 شهور، كما أذكر أن هذه الجريمة تركت خلفها 30 إصابة بينها 9 أطفال تم بتر أطرافهم في نفس اللحظة، وباقي الإصابات حروق وصفها بالفظيعة، إضافة إلى 2 من المفقودين حتى الآن.
ولفت المكتب الإعلامي في بيانه إلى أن هذه المجزرة التي ارتكبها الاحتلال تأتي في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال "الإسرائيلي" حيث بلغ عدد مراكز الإيواء التي قصفها الاحتلال 181 مركزاً للنزوح والإيواء.
ثم تأتي هذه الجريمة بالتزامن مع صعوبة الواقع الصحي في محافظتي غزة والشمال واللتين يقطنهما 700,000 إنسان، وإن ما تبقى من المستشفيات في هاتين المحافظين غير قادرة على تقديم الخدمة الصحية والطبية بشكل جيد نتيجة خطة الاحتلال التدميرية للمنظومة الصحية بشكل كامل.
وكالعادة، طالب المكتب الإعلامي المجتمع الدولي، العربي والغربي بالوقوف أمام مسؤولياته الإنسانية، والنظر لهذه الجرائم المستمرة بحق شعبنا منذ ما يقارب العام دون أن يكون هناك إجراء حقيقي تجاه حكومة الاحتلال التي تعيث فسادا كيفما شاءت وبكل الطرق الإرهابية.
لم يكن هذا الاستهداف لمدرسة الزيتون هو الأول، فقد استهدفتها الطائرات مسبقا، وفي كل دقيقة، يدفن الفلسطيني أحبته في قبر، ويدفن وجعه في صدره للأبد.
وهكذا ظل الفلسطينيون اليوم واقفين أمام جثامينهم، وأمام أطفالهم الباكون ألما في غرف العمليات الشحيحة الإمكانيات، كما ظلت غزة واقفة وقفتها كما هي، مصرة على أن تكون شوكة في حلق أعدائها، وهذا هو الخيار الوحيد، رغم أنف العالم، ورغم أنف الاحتلال، ورغم كل الدماء التي تراق كل يوم.