طوال جلوس الطفل ساهر أبو ناموس (3أعوام), في حضن أمه كان يرجوها أن ترجعه إلى بطنها من جديد, لعله يخفف من حدة الرعب الذي سيطر عليه, إثر استمرار قصف الطائرات "الإسرائيلية" لمنازل المواطنين وتدميرها فوق رؤوسهم, وانفجارات أخرى يسمع ذويها هنا وهناك في مختلف مناطق قطاع غزة.
ما فعلته الأم لتخفف من الخوف الذي سكن قلب طفلها؛ أن أطعمته, ثم حممته, وعطرته وأخيرًا رتبت هندامه, بعد ذلك طلب منها ساهر أن يجلس على باب منزلهم الواقع على الأطراف الشرقية من مخيم جباليا, لينتظر عودة أبيه الذي ذهب مع جيرانه لتشييع ابنهم الشهيد الذي مزق جسده صاروخًا أطلقته طائرات الاستطلاع في المنطقة.
استجابت الأم التي أتمت عقدها الثالث ما طلبه طفلها منها, وما هي إلا دقائق حتى أوعز إليها قلبها بمناداة ابنها ليدخل.
وفي طريقها لإدخاله، وفي أخر خطواتها التي تفصلها عن باب المنزل الذي يرتكز عليه ظهر الطفل الصغير وكان صوته يعلو تدريجًا " يلا يا بابا روح.. روح " , وبدون سابق إنذار, أغارت طائرات حربية بعدة صواريخ تزن أطنان على أرض فارغة تبعد عن المنزل عشرات الأمتار.
امتلأ الجو بالدخان, وانقطعت مناداة الطفل على أبيه, وتشنج جسد المرأة خوفًا على ابنها وتارة من الصوت المرعب الذي خلفه القصف, وشظاياه المتناثرة فوق سطح منزلهم.
تغلبت والدة ساهر على خوفها وفتحت الباب, ليصدمها مشهد ابنها الذي كان ملقى على الأرض, أسرعت إليه واحتضنته.
امتلأ قلبها بالسعادة عندما لم تجد أي خدش على وجهه, ولا توجد أي قطرة دماء, ولكن ما أن وضعت يدها خلف رأسه كانت هنا الفاجعة, كان رأس الطفل ساهر فارغًا. دماغ الصغير كان ملتصقا على الحائط الذي يرتكز عليه.
شظية كبيرة ناتجة عن صاروخ أطلقته طائرات الاحتلال, تزن ثلاثة كيلوات, ضربت رأس ساهر, لتطير دماغه, وتصعد روحه إلى السماء, ليمحو خوفه, ويذهب إلى جنة عرضها السموات والأرض.
جثت الأم على ركبتيها, وبين ذراعيها طفلها تنادي عليه بأن يصحو ويعود, واعدة اياه أن تحميه من أي شيء, "اصحى يما , اصحى يا حبيبي(..)".
هل استجاب الطفل ؟!, هل قال نعم يا أمي؟!, ساهر ارتقى إلى ربه؛ في حضن أمه تنفس الحياة, وأيضًا في حضنها فارق الحياة.
"الرسالة نت" استغرقت ساعات للوصول إلى منزل ساهر لإجراء مقابلة معهم ومحاولة نقل معاناتهم, سيما أن المكان هناك أصبح منطقة أشباح, شهداء في المكان قصف هنا, ومنازل مدمرة هناك, تروي والدة الطفل المتألمة: "لا أعلم ما ذنب طفلي(..), ساهر كنت أكتر واحد في أولادي متعلقة فيه".
حديثنا معها قطعه علي ابنها الأكبر الذي أتم عقده الأول, بعد ما اعتلت صرخاته المصحوبة بالبكاء الشديد, عندما شاهد أمه تذرف الدموع بحرقة خلال ذكرها لتفاصيل الحادث.
ساهر من بين خمسة أخوة والدهم سليمان متعطل عن العمل, يستر جوعهم حيطان منزلهم المهترئ.
وكان ساهر لا يفارق حضن أمه, منذ بداية العدوان "الإسرائيلي" الذي دخل في يوم السادس حتى صياغة هذه القصة, في كل مرة عندما كان يستيقظ يسأل أمه " خلص القصف يا ماما؟ أنا خايف".
أما سليمان أبو ناموس (33عامًا) والد الطفل, يحدثنا عما شاهده حين عاد من جنازة جارهم.
كان قد وجد زوجته تحضن طفلها ونواحها عصر قلبه, ليأخذه منها وبدأ الآخر يكبّر ويبكي ويرفع بجسد طفله إلى السماء.
يقول سليمان الذي لم ينقطع بكائه خلال حديثنا معه: " لا أستطيع أن أصف لكم المشهد, كان رأس ابني فارغ, لا استطيع الوصف لا أستطيع". تمنى الوالد أن يأخذ طفله معه ولكن الأقدار لا يمكن تغييرها.
وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو, للشاب سليمان مزق قلب كل من تمعن في تفاصيله, كان الوالد يحمل جثة الطفل ذات الرأس الفارغ في المستشفى ويبكي ويرفع بجسده, وينادي عليه "يا بابا اصحى راح أجبلك حاجات, أمانة تصحى بترجاك".
صعدت روح الطفل ساهر إلى السماء, ليترك والديه غارقين في حسرتهم, فيما تستمر "إسرائيل" بإسقاط القذائف الصاروخية على رؤوس الأطفال والنساء الحوامل والشيوخ والرجال العزل, خلال نومهم في منازلهم.