جسدت الصورة الملهمة المقولة التي باتت قاعدة سياسية حاكمة بأن المقاومة فكرة لا يمكن أن تموت.
أراد الكيان الغاصب وأنصاره من الصهاينة العرب على مدى عامل كام أن يصموه بالمتخفي بين الغرف والأنفاق، المتحصن بالأسرى والمحاط بالحراسة، فجاءت صورته في لحظة استشهاده لتشهد له بالصدق، ولتضع أعظم نهاية لمناضل يظل خالدًا في تاريخ شعبه.
كأنها أسطورة إنسانية صورتها الكاميرا لتحفظ للناس إنسانيتهم، ولتمنح الصادقين زادًا للاستمرار، ولتحمي الذاكرة العربية من التشويش والكذب المنتشر في فضاء السياسة.
الصور من قلب المعارك أصدق أنباءً من غيرها.
بكل المعاني واللغات فضحت صورة السنوار المقاتل والشهيد أعداءه، وضربت المثل الملهم والاستثنائي لقائد يقف وسط المقاومين، يقاتل معهم وبينهم حتى الشهادة.
مات السنوار، وستبقى صورته طويلًا شاهدة على نضال الأنقياء والنبلاء والمخلصين والذين صدقوا ما عاهدوا شعوبهم عليه، فلم يحتفظ التاريخ بمثل هذه الصور قط، ولم يعرف تصويرًا حيًّا لقائد يضرب لأعدائه قبل أصدقائه المثل في الشجاعة والإقدام والتضحية.
اكتملت أسطورته مناضلًا ثم أسيرًا وقائدًا ومقاتلًا وشهيدًا تصوره الكاميرات.
مت وأنت تقاوم.
“فأنت الآن حر وحر” بكلمات شاعر فلسطين الأشهر محمود درويش.
بعد ساعات من استشهاده، خرج قادة الكيان المحتل لإعلان الانتصار.
لم يكن هناك أفضل من صورة السنوار شهيدًا لترد على إعلان النصر الكاذب، ومحاولات خداع العالم.
لم ينتصر من يقاتل قادة ومقاومين في شجاعة السنوار وجنوده، ولم ينهزم قائد يقف حتى اللحظة الأخيرة وحيدًا ومصابًا، يحمل السلاح ويتصدى للعدو الذي يحاصره بالدبابات والطائرات.
صورته وحدها ستلهم المقاومين بأن الاستسلام مرفوض، وبأن الكفاح مستمر ومتواصل حتى النصر أو الشهادة.
برغبتهم المحمومة في إعلان هزيمة السنوار وتسريب صورته الأخيرة، وقعوا في خطأ منح رجاله شحنة معنوية هائلة لاستكمال الطريق.
ستبني صورة السنوار شهيدًا مسارًا للقادم كله، وستضع خريطة الطريق للمقاومة ودورها وحركة أبنائها.
ستحرمهم صورته من النصر حتى لو كذبوا وأعلنوا هزيمته.
في انتشارها الواسع على شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الاحتفاء الكبير بروعة اللحظة وصاحبها -رغم الألم- تأكيد جديد لالتفاف شعبي عربي واسع حول المقاومة، وبرهان مؤكد على أن الشعوب العربية لا تزال حية وفاعلة، ورسالة حاسمة إلى من يقاومون بأن الطريق طويل واستكماله حتمي.
أرادوها صورة للهزيمة، فأضحت هي الرسالة الأهم على أن المقاومة لا تنهزم.
هذه حقيقة موكدة!
بإعلان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على لسان خليل الحية أحد قادتها، أول من أمس، بأن المعركة مستمرة، وبأنه لا إفراج عن أسرى الجيش المحتل إلا بالانسحاب من غزة وتحرير الأسرى الفلسطينيين، بدأت رحلة مختلفة.
فلا رحيل القادة يطفئ جذوة المقاومة، ولا شهادة قائد استثنائي هي نهاية الطريق.
اختارت المقاومة الملهمة والأسطورية استكمال المعركة حتى النهاية، لتمنع العدو المتجبر المنفلت من الاحتفال بنصره الزائف.
صحيح أن اغتيال السنوار ضربة مؤلمة، وأن تأثيرًا يمكن أن يحدث بغيابه، إلا أن أحدًا لن يسمح للاحتلال بالخروج منتصرًا، وقد صعّبت صورة السنوار الطريق على من يأتي بعده، فلا يمكن إلا اختيار الدرب الذي شرحته صورة القائد الشهيد الشجاع واقفًا على خط النار.
بعيدًا عن الضجة الكاذبة والمشاهد المصنوعة، فإن كل ما حققه الجيش المحتل حتى الآن وعلى مدى عام كامل منذ بدء العدوان، لا يتعدى حدود القتل والتدمير والإبادة الجماعية، أما سياسيًّا واستراتيجيًّا فهو ما زال مهزومًا وخاسرًا.
لم تنس المقاومة في تقديرها وإعلانها استمرار المعركة مساحة ما تحقق للقضية الفلسطينية من انتصار سياسي وعالمي عظيم، ولم تُغفل أن العدو المجرم بات في عداء كامل مع شعوب الأرض التي عبَّرت انتفاضتها طوال العام الماضي عن تغييرات سياسية كبرى لم تحدث طوال مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي.
لم يغب عن قادة المقاومة في فلسطين المحتلة أن التضحيات الجسام التي قدَّمها الشعب الفلسطيني من دمائه وأرواح أبنائه النبلاء لا يمكن أن تنتهي إلا بانتصار يجسد ما تقدَّم، ويحصد ما ينقل قضيته الكبرى خطوات مهمة ومؤثرة إلى الأمام في سبيل حريته المستحقة.
في رسالة حماس ما يؤكد أن استشهاد السنوار لن ينهي المقاومة، بل سيدفعها خطوات إلى الأمام، ستتجاوز سريعًا آلام غياب قائد عظيم، وتواصل سعيها لكسب المزيد من الأنصار، والسير إلى الأمام على خطى هزيمة المحتل، واستكمال الطوفان الذي بدأ، وحصد النصر المستحق الذي يضع فلسطين وقضيتها في الواجهة من أزمات العالم.
ظني -وربما أملي- أن غياب السنوار يمكن أن يتحول إلى طاقة إصرار على النصر، عبر تأكيد الهزيمة السياسية للمحتل، وتحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، والانسحاب من غزة، ووحدة الفصائل الفلسطينية، واستكمال معركة التحرير في مقبل الأيام بدعم شعبي عالمي غير مسبوق في تاريخنا الحديث بأكمله.
في الإصرار على النصر انتصار مؤكد.
وفي تجاوز الجراح والآلام واستكمال الطريق أسطورة جديدة صنعتها المقاومة منذ عام وأكثر.
وفي الاثنين -الإصرار وتجاوز الآلام- ضربة جديدة ومزلزلة للعدو الذي ظن كذبًا أنه على شفا الانتصار.
الأقدار تصنعها المقاومة وحدها، والنصر تكتبه الدماء الزكية.
هذه القاعدة هي خريطة القادم.
بعد أيام من الآن، ربما تعلن حركة حماس عن رئيس مكتبها السياسي الجديد.
اعتادت الحركة اختيار البديل لرئيس المكتب السياسي في وقت قصير.
حدث هذا بعد استشهاد إسماعيل هنية.
المعركة الدائرة في غزة ستفرض على الحركة المضي في طريق الاختيار السريع نفسه لقائدها الجديد.
في الاختيار نفسه رسائل ستبعث بها حماس إلى الجميع.
ما بعد صورة السنوار الملهمة الشجاعة سيكون الطريق صعبًا على القائد الذي سيأتي من غبار المعارك المشتعلة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لن يَقبل جمهور المقاومة قائدًا يقل في تضحيته وشجاعته وقوته عن الشهيد الذي قاوم حتى النهاية.
يظن الاحتلال أن رحيل قائد يسهّل من المعركة، وتثبت الوقائع أن العكس هو الصحيح.
لن يكون القائد الجديد أقل شجاعة وإقدامًا، ولن تمر صورة الشهيد مرورًا عابرًا على كل من يحصل على لقب رئيس المكتب السياسي الجديد.
ستبقى الصورة تعبيرًا عن اللحظة، وقلمًا يرسم خطوات الطريق المقبل، وفي هذا الطريق الكثير والكثير من تفاصيل وبطولات وتضحيات لم تكتبها المقاومة بعد، لكنها ستكمل بكل تأكيد دروبًا للنصر صنعتها دماء الشهداء.