أم مالك بارود؛ اسم لم يكن ليتردد صداه دون أنّ تلتقط لها كاميرات التلفزة مشاهد وداعها لاثنين من أبنائها، وهي تهتف بكل كبرياء "ما شاء الله بتشاهدوا؛ والله راحوا شهداء زي ما بحبوا".
كان ذلك ، أثناء وداعها لأبنائها الذين ارتقوا في مجزرة استهدفت المسجد الأبيض في مخيم الشاطئ؛ ليرتقيا أثناء صلاتهما في المسجد.
لم تودع اثنين من أبنائها فحسب؛ بل سبق أن ودعت نجلها البكر مالك؛ ذلك الشاب الذي هبّ مع أبناء حي الشاطئ في ذروة الاستهداف بالأحزمة النارية؛ ليجلب ماءً حلوا صالح للشرب على مفترق الجامعة الإسلامية؛ لتستهدفه طائرات الاحتلال، وتبقي جثمانه لشهر كامل تقريبا على الرصيف.
ليلتحق به شقيقه الآخر بعد أقل من شهر؛ في استهداف لتجمع من المواطنين اثناء محاولتهم أيضا البحث عن ماء.
هؤلاء الأبناء؛ أما والدهم محمود بارود؛ أحد أهم اعلام الحركة الرياضية في القطاع، ومدير عام في وزارة الشباب؛ فقدت آثاره تماما مع بدء العملية البرية العدوانية على شمال القطاع؛ ولم تعرف العائلة شيئا حيال مصيره.
في خضم ذلك كله، كانت هناك فتاة من هذه العائلة، تلتقط صور الشهادة، وتنعي أعز ما تملك إخوانها الشهداء؛ صحفية اسمها حنين بارود.
ارتبط اسم حنين بالنشاط الإعلامي تحديدا في توثيق مسيرات العودة الكبرى؛ فلم تغب جمعة واحدة عن هذه الفعاليات؛ رغم اصابتها آنذاك مرتين؛ ولم تبرح ميدانا؛ كانت تراهن رفيقاتها أن سترتقي خلالها بسبب جرأتها في توثيق المشهد.
ثم أخيرا؛ استقر بها المقام في مؤسسة القدس؛ تلك المؤسسة التي تعني بتوثيق بالمدينة المقدسة، والجرائم الإسرائيلية التي ترتكب بحق المقدسات هناك؛ لتختار حنين مصممة ومنتجة؛ وتخرج هي من جعبتها عشرات التصاميم التي وثقت لهذه المدينة.
حنين؛ وثقت أيضا مشاعرها وحنينها على فقدان إخوانها ووالدها عبر جدران صفحتها على الفيس بوك؛ لترتقي أخيرا؛ في لقاء الشوق مع خلانّها؛ بعدما ارتقت برفقة عدد من الصحفيين؛ في مجزرة ارتكبها الاحتلال في مخيم الشاطئ.
هنا؛ يأتي الخبر لأم مالك؛ حنين ترتقي؛ جبل البيت وعموده منذ كان إخوانها؛ تبعا لما تصفه الأم عن ابنتها؛ ثم أضحت الوتد الذي يسند الخيمة كلها بأثقالها وأوجاعها؛ فتغيب؛ وتبقى الخيمة بلا وتد!
تقول أم مالك وهي التي ودعت ابنتها بعد ساعات من البحث عن جثتها؛ "كنت أبحث عن جثمانها وأسعى لإيجاده؛ كما طافت وسعت أمنا هاجر وهي تبحث عن المياه لطفلها في الصحراء".
لكن الفارق أن ظمأ الأم لم يرتوي؛ بل ثمة غصة لزمزم من الجراح لا يزال يفيض في قلبها؛ وهي تدرك بأن وجع كبير قد حلّ عليه في مساء يوم ثقيل؛ كضيف غير مرغوب به.
تقول الأم "والله لو لم يكن لدي أحد؛ ولو ودعت كل عائلتي؛ لن نندم، ولن نسلم، ولن نتراجع، ولن نهاجر من شمالنا، وملتقانا الجنة".
تضيف الخنساء في لغة عبر اتصال هاتفي مفعم بالتحدي؛ "أنا ودعت خمسة من أولادي؛ نيالهم فداء للدين ولفلسطين؛ لدينا قماش أبيض نكفن به أبنائنا؛ لكن ما عنا قماش نرفع فيه رايات بيضاء".
حنين؛ التي وثقت أيضا وداع صديقات لها استشهدن في هذه المعركة؛ قد ودعت في وقت سابق عمها د. نعيم بارود، وأبناء اعمامها في مجازر استهدفت العائلة في عديد المناطق بالقطاع.