تنادي في هذه الساعة (صباح الخميس 31 أكتوبر 2024) طائرات "الكواد كابتر" التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي على النازحين في مدرسة تل الزعتر ومدرسة تل الربيع في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، "أن غادروا بيت لاهيا".
وربما كان النداء الآخير قبل تدمير آخر حجر في المدينة التي كانت يوما أجمل مدن الشمال الغزي، والتي أعلنتها وزارة الصحة مدينة منكوبة، لما قدمته من مجازر وشلال دم ينزف منذ أكثر من عام، حتى استفحل النزيف أكثر منذ 26 يوما متواصلة من الإبادة المركزة شمال القطاع، في عملية هي الأكبر والأكثر عنفا وفتكا بالمواطنين على يد آلة القتل الإسرائيلية.
في يوم الثلاثاء، نسفت الطائرات منزلا من خمسة طوابق، دفنت أسفل حجارته عشرات الأرواح، انتشل منهم أكثر من 100 شهيد معظمهم من عائلة أبو نصر، التي آوت نازحين كثر، أتوا هاربين من آلة الفتك الإسرائيلية في جباليا، لتقتلهم في بيت لاهيا.
وما هي إلا ساعات قليلة حتى أعلنت وزارة الصحة عن مجزرة أخرى في بيت لاهيا لعائلة اللوح، ولم تكن الأخيرة.
تتوالى المجازر في شمال القطاع بشكل يصعب حسابه لسرعة الموت، حتى أعلنت وزارة الصحة توقف المستشفيات كلها في الشمال عن العمل لقلة المعدات والأدوات وانقطاع الكهرباء عن المستشفى بسبب منع إدخال السولار.
أحكم جنود الاحتلال قبضتهم على المدينة، تجويع وحصار، ولا يسمح بدخول أي طعام، ولا ماء للشرب، لكنه لم يحكم قبضته على أهلها، فلا زال العشرات منهم مصرين على الثبات في أماكنهم، دون أن يسمحوا بتكرارا سيناريو النكبة إلا إذا دفنت أجسادهم أسفل منازلهم.
لا طعام ولا علاج، ولا أمن أو راحة أو نوم في بيت لاهيا، المدينة التي كان يتغزل بها أهلها ويزورها أهالي القطاع ليأخذوا جرعة من هواء نقي في مزارعها الواسعة وأراضيها الخضراء الشاسعة التي تحولت الآن إلى أرض جرداء تعيث فيها الأليات العسكرية فسادا.
مدينة الفراولة والزهور والخضروات والحمضيات والتفاح أصبحت أرضا محروقة، وهي المدينة التي تقع على خط الهدنة، صاحبة التاريخ الطويل، والتي تحوي أثار مساجد تعود إلى الحقبة العثمانية والأيوبية، كلها هدمها المحتل الذي يسعى إلى تغيير تاريخ المدن بقتل أصحابها.
ثلاث مدن تقف كسد منيع في شمال القطاع، بيت لاهيا، بيت حانون، وجباليا، دفعت ضريبة أكبر من أن تتحمله المدن، فلا ملامح الآن لها، وربما لا يعرف المحتل الهمجي أن تلك المدينة هي قرية قديمة جدا، بها آثار تعود لفترات الحكم الفارسي والروماني والخلافة الإسلامية.
سميت الجميلة المنكوبة بيت لاهيا لما كان فيها من معابد قديمة، ولكن الحقيقة أنها استمدت اسمها من اللهو، حيث كانت حديقة غزة المليئة بمزارع الفراولة، وأزهار القرنفل، والتفاح اللهواني، والتي يقصدها أهالي القطاع ليجدوا في أشجارها ونسا بعيدا عن ضجيج المدينة، ولكن بيت لاهيا تنسف تحت ضجيج الإبادة، وتقتل كل يوم ألف مرة، على يد جيش يعشق قتل التاريخ ونسف المدن.