قد تتداخل الأمور مع ازدحام عملية القتل والتدمير، وهي فرصة المحتل (الإسرائيلي) حتى ينسل كاللصوص بين هذا الموت الكثير، مستهدفا تاريخ المدن القديمة، فيحاول سلبه وطمسه بالتدمير، وهكذا فعل في مدينة غزة القديمة، والآن يفعل ذلك في بعلبك وصور بلبنان، وكل تلك الأسماء تعاقبت عليها حقبات تاريخية عريقة، رسخت على أبنيتها القديمة قانون البقاء لصاحب الأرض، مهما مر عليها من الغزاة.
ولأجل ذلك كان التاريخ بآثاره هاجسا، يسعى الاحتلال إلى طمسه، فبدأ بغزة، دمر سوق قيسارية القديم، وهدم جدرانا تاريخية عمرها مئات السنين في المسجد العمري، بل وقصف متحف الباشا الذي يضم قطعا تاريخية، ليس فيها ذكر ليهودي مارق.
ثم حينما انتهى من تدمير القصر الذي كان مزارا أولا لمن أراد أن يعرف غزة، مر على البيوت التاريخية القديمة، فدمر سباط العلمي، ولم تسلم بلاطات الكنيسة البيزنطية شمالا، والتي كانت وزارة السياحة قد رممتها وحولتها إلى مزار يحكي حقبة تاريخة عريقة، فانتزعت بلاطاتها الملونة، وسرقت ونهبت دون أن يكون هناك قدرة على تصوير كل ذلك، فالعيون مشغولة بآلة القتل.
وجميعنا شاهد على قصف كنسية القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، وارتكاب مجزرة جديدة فيها بعد أيام من مجزرة المعمداني المعروفة، التي لا يعلم الجميع أنها تعتبر ثاني أقدم الكنائس على وجه هذا العالم، بل وقتل من لجأ إليها من مسيحين ومسلمين في البلدة القديمة في مدينة غزة، في أكتوبر 2023
100 موقع تاريخي في مدينة غزة القديمة استهدفها الاحتلال، جوامع وكنائس قديمة، وسبل وبيوت موجودة في منطقة المنطار وحي الشجاعية والزيتون الذي أعلنت أحياء منكوبة، فلقد دمر الاحتلال 80% من البيوت والمباني فيه.
ثم في خان يونس، حيث تنتصب قلعة برقوق على مدخل المدينة، دمر الاحتلال في الثامن عشر من أبريل لعام 2024، القلعة، التي يتراوح عمرها قرابة 650 سنة.
قتل وراءه قتل، وبين واحد وآخر، يسرق الاحتلال تاريخ المدن، أو يطمسها، ويعتقد أن شعبا كأهل غزة لا يستطيع كشف الحقائق، ولا إعادة التدوين.
وفي بعلبك وصور، مدينتان تاريخيتان في لبنان، عكف الاحتلال منذ اليوم الأول على عدوانه، على قصف الأعمدة الأثرية القديمة في بعلبك.
ربما تستطيع أن تكذب على العالم كذبة أخرى، وتنفي وجود تاريخ قديم على هذه المدن، وتقول للعالم بكل وقاحتك المعهودة: "أنا من صنعت التاريخ لمدن لم يكن لها يوما تاريخا، تماما كقاعدة "أرض بلا شعب" التي سعى الاحتلال لاتخاذها منهجا لهمجيته، ولم يستطع.
وفي بعلبك كرر الاحتلال محاولاته، في تلك القلعة الشهيرة التي يعرفها رواد التاريخ، مزارا مهما وهدف السياح حول العالم، بل كثر من المطربين والفنانين أحيوا حفلاتهم في قلعة بعلبك التاريخة في لبنان.
قبل أيام أجبر الاحتلال أهالي مدينة بعلبك الواقعة شرق لبنان على الرحيل، لينفرد بالمدينة التاريخية "مدينة الشمس" والتي تضم مدرجات تاريخية رومانية مدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة "اليونسكو" منذ عام 1984، وبعضاً من المعابد وكلها كانت هدفا للطائرات.
ولبنان يضم خمسة مواقع مدرجة على لائحة التراث العالمي التابعة لمنظمة "اليونيسكو"، وهي معرضة للخطر بفعل الغارات الإسرائيلية غير المسبوقة على بعلبك وصور دون أن يتمكن المختصون من الوصول إلى الأماكن المهدمة ليستطيعوا تقييم الضرر أو إصلاحه إن استطاعوا.
ويستعرض الصحافي اللبناني بشير مصطفى أهم الأماكن التي استهدفها الاحتلال في مدينتي بعلبك وصور: "في بعلبك تضرر السور الخارجي للقلعة التاريخية، حيث أضيف إلى مجمع المعابد الرومانية من أجل مزيد من الحماية ومواجهة الغزاة، إضافة إلى الجامع الأموي الكبير وهو أقدم مساجد لبنان".
أما في النبطية الفوقا (جنوب)، فقد دُمر مسجد ينتمي إلى الحقبة المملوكية، إضافة إلى السوق التجارية المنتمية للمرحلة نفسها والامتداد العثماني المتجسد في مبنى السرايا، فضلاً عن استهداف ضريح المخترع اللبناني محمد كامل الصباح. وأيضاً تدمير مسجد كفرتبنيت (جنوب) التاريخي.
ويضيف الكاتب: ولم تسلم صور، التي تحوي كنوزاً تاريخية قيمة، من الاستهداف الإسرائيلي، وهي تعد من أغنى مدن المتوسط في تاريخها، بدءاً بالحقبة الفينيقية، مروراً بالحضارة اليونانية، وصولاً إلى الرومان، والبيزنطيين، والحكم العربي - الإسلامي، وما تبعها من حقبات.
ومن بين المواقع التاريخية التي استُهدفت في المدينة، قلعة "شمع"، وفيها مقام النبي شمعون، في بلدة شمع - قضاء صور، وأيضاً، حي شرحبيل (صيدا) الذي تعرض للقصف وفيه مقام الصحابي شرحبيل ابن حسنة.
ولا تقتصر الأضرار على القلاع إنما لحقت بالأضرحة بصورة كبيرة، كما أن الضرر لا يقتصر على داخل القلعة وحسب إنما على محيطها أيضاً "حيث تمتلئ المدينة بالمواقع العائدة إلى العصرين المملوكي والأيوبي، على غرار المدارس والأضرحة ومقابر الصحابة الكرام، وفي كثير من المرات، أدى استخدام الاحتلال في قصفه للأماكن المجاورة صواريخ ارتجاجية، أثرت بشكل مباشر على الجدران القديمة وصدعتها، حسب قول مصطفى.
أضرحة، ومبان، وبقايا مدرجات وكنائس، مهددة بالزوال، تحت مرأى العالم، ولن يعترض أي من المنظمات التي تنادي بالحب والسلام، والدفاع عن التاريخ وحق أصحاب الأرض، ما يدل على همجية الاحتلال، بل وهمجية العالم، وازدواجية معايره، فلم نجد حتى الآن موقفا من منظمة اليونسكو تجاه آلية الهدم والتدمير، وفي ظل كل هذه الوقاحة الإسرائيلية، يراودنا كل صباح ونحن نراقب الصورة بكل عجز سؤال واحد، ماذا سيهدم الاحتلال أكثر في المرة القادمة؟!