حرقة قلوب الأمهات في الخيام، تعددت أشكالها، حتى بات صعبا أن نحصيها في قصة، مئات من الأطفال تعرضوا للموت، وما زالوا يتعرضون كل يوم، في ظل قصف طائرات الاحتلال (الإسرائيلي) التي تستهدف الأطفال في قطاع غزة بشكل متعمد وممنهج، وفي ظل الجوع الذي أكل من صحتهم، بسبب منع إدخال الطعام والمساعدات، والتي إن وجدت فهي مرتفعة الأسعار.
تغالب الأم نجاح البلعاوي العشرينية دموعها، هي لا تعرف إجابة كافية لكل الأسئلة التي تدور في خلدها، أو التي يطرحها عليها العابرون، أو تلك التي عجز الأطباء عن إجابتها، لكنها حينما يسألها أحد مما تخاف؟! تشير إلى رضيعها وتقول:" بخااف الدنيا تاخذه مني".
تعرف إجابتها الخاصة، حقها الذي أصبح حلما، حيرى لا تدري ما الذي أصاب طفلها الذي كان بصحة جيدة، ولدته قبل ثمانية أشهر تحت وابل القصف والصواريخ، وكانت قد انتظرته خمس سنوات متواصلة حتى جاء في لحظات الكمد الأصعب عليها.
بين نزوح وآخر كبر الطفل سعد الله لأب لا يعمل، وبيت هدمته صواريخ الاحتلال، وصعوبة الحصول على حليب مناسب لرضيع وضعه الصحي حير الجميع، فبدأ وزنه ينزل تدريجيا بعد أن كان قد أشرق أول ثلاثة أشهر من ولادته، فلم يزد وزنه عن ثلاثة كيلو جرام وهو ابن الثمانية أشهر.
تقلب الأم الصور الكثيرة التي تخزنها في هاتفها، وتشير إلى وجه طفلها الباسم والذي كانت صحته مكتملة مليئة بالعافية أول أربعة أشهر من حياته: "حياتنا قلبت 180 درجة، طعامنا كله على الحطب، ملوث، أطعمه باستخدام حقنة أغليها عدة مرات حتى لا تتلوث، أو يصيبه مكروه، أذهب به إلى المستشفى يوميا، بين تحاليل وصور يقول لي الأطباء إنه لا يشكو من شيء".
تضيف الأم باكية "حتى عندما يتوفر لزوجي عمل ما لا يستطيع أن يتركنا، لأنني أم لطفلين، يجلس زوجي مع الابن الكبير ذو الست سنوات، وأذهب أنا مع الصغير سعد الله للمستشفى، قلبت حياتنا رأسا على عقب، أريد أن أعود إلى حياتي الطبيعية، إلى سعادتنا، وأعيد الحياة لأبنائي، لا أريد أن أخسر طفلي".
تنام أم سعد الله كل ليلة وهي تحسب كم من الحليب قد تبقى في العلبة المركونة في زاوية الخيمة، وتبكي حينما تسأل نفسها: "من أين سأحضر الحليب لابني اذا نفد، وهل سيعيش ابني يوما آخر، وهل يمكن أن يفتح المعبر، لأحظى بفرصة علاجه من سوء التغذية وإنقاذ حياته؟!".
في فبراير/ شباط الماضي علقت الأونروا، تسليم المساعدات إلى شمال غزة بعد هجوم (إسرائيلي) على إحدى قوافلها، مما زاد من تقييد المساعدات. وبعد فترة وجيزة، أوقف برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أيضًا عمليات التسليم، بحجة الهجمات، وهذا ما زاد أزمة الجوع تفاقما، والتي سيدفع ثمنها الأطفال بالدرجة الأولى.
وتشير التقديرات إلى أن واحداً من كل ستة أطفال دون سن الثانية في شمال غزة يعاني من سوء التغذية الحاد، وفقاً لتقييم أجرته مجموعة التغذية العالمية، التي يشترك في رئاستها برنامج الأغذية العالمي واليونيسف.
وحسب آخر الأرقام التي نشرها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة فإن 38 طفلا استشهدوا نتيجة المجاعة. بينما (3,500) طفل معرّضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء.
ونجاح البعاوي تطاردها كوابيس الفقد من كل جانب، تنظر إلى سعد الله، وترسل دعوة إلى السماء بأن يرسل الله معجزة تنقذ حياة الصغير من الجوع والموت.