قبل عام كامل، وتحديداً في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، اضطررت للنزوح القسري عن مدينة غزة، أسوة بآلاف الغزيين الذين اكتووا بنار حقد جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي صب حمم غضبه على المدينة الساحلية، محاولا الانتقام من أطفالها ونسائها وشيوخها بعدما فشل في مواجهة رجالها صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث تمادى بعدوانه السافر حد اقتحام مجمع الشفاء الطبي لأول مرة حينها، فضلا عن استهدافه المركّز لطواقم الإسعاف والدفاع المدني التي ضعفت قدرتها على إسعاف الجرحى وإنقاذ المصابين لكثرتهم. واليوم بعد عام كامل من النزوح المرهق، لا أدري إن كانت الكلمات أو حتى الدموع تسعف المرء للتعبير عن قسوة حياة النزوح إن جاز وصفها بـ"الحياة"!
ودون أدنى مبالغة، فإن إجبار الإنسان على النزوح من مدينة الميلاد والنشأة نزع بطيء ومؤلم للروح، كما أن الاضطرار للعيش بلا أدنى مقومات الحياة وبعيدا عن بيت الطفولة والذكريات غربة وإن كانت داخل الوطن الجريح، فالنازح عالق في أتون الحاضر يعايش ويكابد اللحظة على أمل عبور عنق الزجاجة واجتياز مرحلة الحرب والعدوان، لا سيما أن حياة النزوح استبد بها الوجع والألم، وسادها التعب والنَصَب، وشاع فيها الجوع والمرض، وفُطرت خلالها الأفئدة جراء توالي فقد الأحبة قتلا وأسرا وبُعدا وشتاتا!
ولكم يمزق الأنين أفئدة النازحين الفلسطينيين الذين مسهم الحنين لأزقتهم وذويهم وذكرياتهم ومساجدهم وحواريهم وأكلاتهم المفضلة وعاداتهم وحتى ملابسهم، نعم ملابسهم! فالنزوح القسري جردهم من كل شيء تقريبا، وفرض عليهم التكيف مع أبسط وأقل المتاع المتاح من ملابس وطعام وشراب ومأوى، حيث تعاقبت عليهم فصول العام من شتاء بارد وصيف حار وخريف متقلب عدا الربيع الذي توارى خجلا وآثر بقية الفصول بنصيبه من الأيام. والمؤلم أكثر أن النزوح المرهق لا يزال متواصلا في ظل ظروف معيشية تزداد صعوبة وقسوة، وتبدو أقرب للموت البطيء جراء إغلاق الاحتلال للمعابر وشح دخول البضائع والمساعدات واحتكار التجار الفجّار للسلع وفحش أسعار المتاح منها، عدا عن وحشية إسرائيلية غير مسبوقة.
ومما يزيد فصول المأساة فقدان الخصوصية في حياة النزوح، فلا خصوصية البتة في مخيمات النزوح، فحياة النازحين مشاع بكل ما تحمل الكلمة من غصة وحسرة، لا لشيء سوى أن الخيام القماشية والجلدية لا تحفظ الأسرار ولا تكتم الشجارات العائلية، ولا مجال لغير ذلك أصلا مع الازدحام ومحدودية الأماكن المتاحة إجمالا، عدا عن فقدان أبسط مقومات ومتطلبات الحياة الآدمية جراء شدة الحصار وفحش الأسعار جراء جشع وطمع وفُجر التجار الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، حتى ولجوا بقوة في دائرة دعوات الأئمة الذين يسألون الله صباح مساء أن يصب على التجار سوط عذاب بذات القهر الذي يسألونه أن تضع الحرب أوزارها، وأن يعود للدار غيابها وأحبابها رغم علمهم أن الدار غالبا تحولت لمجرد ركام وأنقاض!
ومن أوجه المأساة كذلك، المواصلات المتاحة في ظل النزوح والعدوان، فلا سبيل أمام النازحين لقطع المسافات الطويلة والمرهقة سوى "الشعبطة" بمركبات ألُحقت بها عربات لزيادة عدد الركاب، لا سيما أن شح إمدادات الوقود لقطاع غزة أخرج معظم وسائل النقل عن الخدمة منذ بداية العدوان، وفتح المجال لازدهار الدراجات الهوائية وعربات تجرها حيوانات! إلى جانب بعض المركبات التي يتاح لها شيء من الوقود أو استخدام زيت الطعام كوقود. ويزيد القهر لمن يملكون سيارات خاصة لكنهم لم يتمكنوا من اصطحابها لأماكن النزوح؛ نظرا لظروف العدوان وإجبار الاحتلال النازحين على قطع مسافات سيرا على الأقدام في مسارات محددة خلال رحلة النزوح!
ومع ذلك، ورغم مأساوية الواقع المعاش، فلا شيء يهون وجع النزوح ومرارة أيامه وقسوة ظروفه سوى اليقين بالله تعالى أن الألم مصيره الزوال، وأن التضحيات الجسيمة لن تذهب هدرا، وأنها تقرب الشعب الفلسطيني من العودة لربوع فلسطين، كل فلسطين، رغم أنف الاحتلال وداعميه ومناصريه، لا سيما أن المقاومة وصمودها يدعوان لكثير من الفخر والاعتزاز، ويداوي شيئا من خيبة هوان الأمة المتفرجة على ذبح الأطفال والنساء والشيوخ منذ عام ويزيد، مكتفية بدموع بلاستكية وتبرعات خجولة ودعوات ومنشورات مساندة في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي وكفى الله المؤمنين القتال!
ومما يهوّن قسوة ظروف النزوح؛ لطف الرحمن ومعيته الحاضرة، إذ لولا ذلك لذهلت عقول الغزيين وطاشت لهول ما تعرضوا له على مرأى ومسمع العالم أجمع، وسط خذلان مثير للقهر والغثيان، وصمت وعجز وتواطؤ دولي يوجب نعي "الإنسانية"، لا سيما بعد السقوط المدوي لشعارات المنظومة الدولية بأسرها، فلا حقوق إنسان ولا قوانين دولية ولا أعراف ومواثيق إنسانية أوقفت جرائم الإبادة بحقهم!