البيوت الأثرية بغزة .. حكايات برائحة الماضي

الرسالة نت - خلود نصار

استذكرت (الرسالة) تاريخ مدينة غزة خلال تفقدها البيوت الأثرية وسط أزقة وشوارع البلدة القديمة التي نقشت تاريخا عريقا ما زال بعضه حاضرا, فبيوت حي الدرج الأثرية ذات الجدران العريضة مسمرة اللون والتي غطتها الطحالب والاعشاب ما زالت محتفظة بنكهة الماضي, لتروي حكاية أقوام سكنوا غزة ووضعوا بصماتهم العمرانية التي صمدت على مر السنين.

بيت العلمي

عبر باب حديدي أحمر اللون دخلت (الرسالة نت) إلى أحد البيوت الأثرية الواقعة في حي الدرج يدعى بيت العلمي الذي يعود إلى العهد العثماني, فمن خلال مدخل ضيق معتم له سقف مقوس (الدهليز) يتم العبور إلى فناء البيت وحجراته.

في فناء المنزل المنير الواسع الذي كانت السماء و الغيوم سقفا له, و كان بلاط أرضيته من الرخام الملون مختلف الألوان والأحجام، تشتم رائحة منبعثة من المطر الذي اختلط بحجارته الرملية المصفرة ذات الملمس الخشن وقد برزت حدود كل حجر منها على حدة من خلال مادة تميل إلى الصفرة تسمى (الكحلة) .

لم يكن شكل البيت تقليديا كالبيوت الحاضرة بل في كل جزء منه معلم يروي حكاية. (المزيرة) مثلا و هي تجويف عميق داخل الحائط كانت تستخدم للاحتفاظ بالماء. ففي كل يوم كان يأتي السقا الذي كان يبيع الماء فيعبئ المزيرة التي تسد مسد خطوط مياه الممتدة في وقتنا الحالي، وبجوار المزيرة أسفل الحائط فتحت فتحة متوسطة الحجم بشكل مقوس و هي مكان كان يستخدمه أصحاب المنزل لتخزين مؤونتهم.

وكان من أبرز الأماكن ذات الطابع الإسلامي التي ميزت المنزل هو (الإيوان) و الذي استمد المركز تسميته من خلاله, و الإيوان وهو عبارة عن غرفة ترتفع عن الفناء وتتكون من ثلاثة جدران رابعها مفتوح عبر أقواس كبيرة على فناء المنزل و يتميز سقفها بالتجويف الذي يسمى بالعقد المتقاطع الذي يميز معظم المعالم الإسلامية القديمة .

و تتميز جدران المنازل الأثرية بنقوشها المتشابكة المميزة التي تلفت أنظار زائريها وتتميز جدرانها أيضا بسمكها الكبير الذي يقارب المتر وهذا ما يجعل استغلاله ممكنا من خلال تجويف في الجدار يسمى (اليوك) و الذي يستخدم لحفظ الفراش والحاجيات.

ولحجرات المنزل نوافذ طويلة ذات أعمدة معدنية متقاطعة تطل على فناء المنزل المتسع والذي يحوي على جانبه الأيمن درجان رخاميان متقابلان يوصلان إلى سطح المنزل ويحوي بدوره حجرتين إحداهما تسمى حجرة السباط و لها قبة كبيرة مزخرفة بنقوش متقاطعة دائرية الشكل, وفي أعلى سورها فتحتات صغيرة كانت تستخدم للتهوية .

وكان لمركز عمارة التراث- إيوان، التابع لقسم الهندسة في الجامعة الإسلامية، دورا في ترميم هذا الموروث التاريخي و إعادته لسابق عهده ونفض الغبار عنه بعد أن طوى بيوتها التحضر و تركها أصحابها لقدمها وخطورتها لأنها آيلة للسقوط.

آثار بيوت مهدومة

بعد الخروج من بيت العلمي استكملت (الرسالة نت) طريقها لتتعرف على بيوت اخرى بصحبة المهندسة نشوة الرملاوي منسقة المشاريع بمركز إيوان لتشير إلى آثار بيت كان في المكان يعود لعائلة الطباق و بجواره اجزاء بقيت من بيت أبو شعبان الأثري الذي لم ينته المركز من ترميمها بعد.

وتميز هذا البيت عن سابقه بما يعرف بـ(الرواق) و هو مساحة فارغة امام الحجرات جدارها على شكل قوسين كبيرين يتوسطهما عامود رخام ضخم زينته النقوش.

بيت العشي الأثري

انتقلت (الرسالة نت) بعدها بمرافقة الرملاوي إلى بيت أثري آخر ما زال بدوره يخضع للترميم خلال هذه الفترة و هو بيت يعود لعائلة العشي، تميز بارتفاعه عن الشارع و يزدحم هذا البيت الأثري بالعاملين الذين بدؤوا العمل فيه منذ ساعات الصباح الباكر.

و كان مما تميز به هذا المنزل الحائط المغطى بنقوش ورسومات ملونة ذات طابع اسلامي، بالإضافة إلى ارضيته ذات البلاط الملون و التي بدت مخفية المعالم نتيجة الرمال التي غطتها.

ومن الملفت للنظر أيضا الحجر الرخامي الذي يعلو باب إحدى الحجرات زينته آية قرآنية "بسم الله الرحمن الرحيم و رتل القرآن ترتيلا" و تميز كذلك بحجارته الضخمة صفراء اللون و التي رسمت ملامحها نقوش مختلفة الأشكال.   

 و تذكر الرملاوي أن اختيار البيت الذي سيرمم يكون وفقا لحالته الإنشائية أي أن البيوت الاثرية التي يكون وضعها حرجا من حيث البناء يكون لها الأولوية و كذلك ترحيب مالك البيت بالفكرة  و ايضا القيمة المعمارية للبيت و موقعه.

في السياق ذاته توضح أنهم بمجرد ان يقع اختيارهم على احد المنازل الأثرية يتم الاتفاق مع أصحابها سواء كان هذا البيت مهجورا أو مسكونا و من ثم يتم تقييم حجم الأضرار ووضع خطة التدخل ثم التنفيذ.

ومن المشاكل العمرانية التي تعاني منها المنازل الأثرية هي الرطوبة الكبيرة والاملاح والشروخ والتسريب، كما ذكرت الرملاوي.

و نظرا لأن البيوت الأثرية بنيت سابقا من مواد خام طبيعية لذلك يتم ترميمها بذات المواد الطبيعية مثل (الفخار و الإسمنت الأبيض و الفحم و الرمل و أيضا المياه المقطرة) و يتم العمل من خلال مرممين فنيين يتم تدريبهم مباشرة في ميدان العمل على تقنيات الترميم و تتابع الرملاوي أن العاملين في الترميم يرحبون بالفكرة و يسعدون لكونهم تعلموا شيئا جديدا وخبرات مفيدة.

بعد انتهاء العاملين من العمل يتم اختيار أثاث المنزل على أن يكون مناسبا مع بنائه و حقبته الزمنية، وتضيف أنهم يستفيدون من البيوت الأثرية المهدمة كليا عن طريق جمع حجارتها الرملية أو الصخرية لاستخدامها في بيت آخر, بشرط أن تكون من نفس الحقبة الزمنية.

ومن جانبه يذكر أحمد محيسن مدير مركز إيوان الذي تأسس في عام 2000 أن هدف المركز هو الحفاظ على التراث المعماري في فلسطين وكون الحاجة ملحة لإيجاد مثل هذا المركز لتوثيق ما تبقى من التراث.

ويعد مركز إيوان الأول من نوعه المتخصص في مجال الحفاظ على التراث المعماري.

ولم يقتصر عمل المركز على الميدان فقط بل يعقد أيضا دورات تدريبية متخصصة للترميم و الحفاظ المعماري تستهدف الفنيين و المهندسين و طلبة الهندسة و كذلك قسم التاريخ والآثار، كما يذكر أبو محيسن الذي يضيف انهم يعقدون ايضا دورات توعوية الهدف منها زيادة التوعية بضرورة الحفاظ على التراث.

وكان من أهداف المركز ايضا توثيق الأماكن الأثرية الموجودة ضمن ارشيف يحمل معلومات عنها وصور فتوغرافية ويقوم المركز ايضا بأرشفة الأماكن الأثرية التي هدمت من خلال جمع المعلومات عنها والبحث عن صور قديمة لها مثل موقع مبنى (خان الزيت) في شارع عمر المختار الذي تحل مكانه عمارة أبو رحمة حاليا.

و عن البيوت التي تم ترميمها يذكر محيسن أنه سيتم استغلالهم لمدة خمس سنوات قبل تسليمها لأصحابها و الاستغلال سيكون عن طريق استخدام هذه البيوت كمراكز ثقافية نوعية ومعارض للتراث المعماري و أيضا لعقد دورات معمارية فيها و ستستخدم بعضها كمتاحف لعرض التراث الأثري.

استهدفت في الحرب

يذكر أنه خلال الحرب الأخيرة على غزة تم استهداف بعض المباني التاريخية استهدافا مباشرا كقصر الضيافة (قصر الحاكم) و كذلك مبنى شرطة البلدية كما تضررت بيوت أثرية أخرى نتيجة الاهتزازات أو استهداف مبان مجاورة لها, مما استدعى تدخلا سريعا من المركز لترميمها ووقف خطر انهيارها.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن مركز إيوان تعرض أيضا للقصف بالكامل وطال قصف طائرات الاحتلال مكتبته مما أفقدهم جميع الملفات و المعلومات والبيانات. وقد أعيد بناء المركز بتشجيع من إدارة الجامعة ودعم من مؤسسة كلاوس الهولندية.

ويستأنف أبو محيسن حديثه عن الجهات الداعمة للمركز مثل منظمة الصليب الأحمر واليونسكو وكذلك القنصلية الفرنسية و أيضا وزارة العمل الفلسطينية والتي توفر الأيدي العاملة في المشاريع و الإغاثة الإسلامية بغزة .

ويطمح مركز مركز عمارة التراث بالحفاظ على جميع المواقع الأثرية في فلسطين بشكل عام و بغزة بشكل خاص و العمل على توعية المجتمع بأهمية الموروث المعماري للشعب الفلسطيني المحتل على اعتبار أنه دليل واضح على عمق وجود الفلسطينيين على هذه الأرض منذ آلاف السنين.

البث المباشر