دينيس روس، الذي ليس في حاجة إلى التعريف، والذي يعمل الآن مستشاراً للرئيس الأميركي أوباما، أو أحد أهم مستشاريه الصهاينة النافذين وغير القليلين في البيت الأبيض، لا يكتم قلقاً يقض مضجعه هذه الأيام. وحيث إن أمثاله لا يقلقون عادة إلا لأمور يرون فيها تهديداً لإسرائيلهم، فالطارئ المقلق له الآن ما يشهده من تحول استراتيجي هائل التداعيات في دنيا العرب دقت ساعته منذرة بما يراه يتهدد المحروسة، يتهددها راهناً ومستقبلاً، وجوداً ومصيراً. هذه الساعة العربية الداقة المنذرة وفق تصنيفه وتعبيره لها ثلاثة وجوه:
أولاها، "الساعة الديموغرافية"، المتمثلة في هذا الطوفان البشري الهادر الذي يفيض مائراً بالثورة من محيط العرب إلى خليجهم، والذي يعلم روس علم اليقين أنها بعض من تجليات الجغرافيا الرافضة واللافظة للجسم الغريب المفتعل المزروع عنوة في القلب منها... الجغرافيا والتاريخ والأمة التي استيقظت واستعادت إرادتها المختطفة.
و"الساعة البيولوجية" الثانية تتمثل عنده بهؤلاء الشباب الثائرين، أو هذه الأمة الشابة المنتفضة، التي رأى نماذجها المذهلة في سيدي أبو زيد وميدان التحرير، في الوقت الذي تزداد فيه المجتمعات الغربية وملحقها الإسرائيلي هرماً، ومشاريعها هيمنتها الاستعمارية المحدثة تعثراً وتراجعاً وفشلاً، خصوصاً في المنطقة العربية وجوارها الإسلامي.
أما ساعته الثالثة فهي "الساعة التكنولوجية"، وهو يعني بها هنا تسلح هذه التي يدعوها الغرب بحق "الثورة العربية الكبرى"، الجائلة المتنقلة الآن في دنيا العرب، بالتكنولوجيا الحديثة. أو استخدام شبابها باقتدار لوسائل الاتصال الحديثة، وتوظيفها بمهارة وإلى أبعد حد ممكن، ودورها في سهولة بعث رياح هذه الثورة في أرجاء الوطن العربي الكبير، وإرسالها لتداعياتها عابرة لحدوده حاملة معها في عديد ربوعه المنتفضة أهم وأخطر ما يقلق دينيس روس وغربه وإسرائيله، ألا وهو التغيير... وعليه، يقول دينيس روس: "علينا التأقلم مع واقع جديد في الشرق الأوسط"، ويحذر من خطورة أن "الكثيرين في المنطقة يتطلعون إلى مصر كأنموذج"، وأن جيلاً عربياً جديداً "يشعر بأن السلام غير ممكن" مع "إسرائيل"، وما يقصده هنا هو إسقاط هذا الجيل لوهم إمكانية تنازل العرب عن فلسطينهم، هذه التي ما انفك هذا الغرب يسعى بكل ما أوتي من قوة لتحقيقها...
ما يقلق روس، ويرعب الإسرائيليين، هو جزء لا يتجزأ أو رئيسي مما هو يقلق الغرب، هذا الذي بالإضافة إلى إسرائيله هناك هم مصالحه في المنطقة التي لم تعد تقاس بعد اليوم وفق منطقه الاستعماري، أي ليس بمقاييس حقبة التبعية العربية البائدة أو السائرة إلى زوال، وإنما بمقاييس جديدة معيارها المستجد في دنيا العرب هو المصالح العربية... أو هذا المصطلح المحدث في قاموس راهن الأمة العربية، لولوجها مرحلة جديدة تفرض ثورة في عديد المفاهيم وتدقيقاً في متراكم المصطلحات واتضاحاً في ملتبس الرؤى، بحيث يسقط الكثير من معهود المصطلحات لترثها أخرى، ويتبدل ما سوف يتبدل من عتيق المفاهيم، وتنجلي بالضرورة كثير من سائد الرؤى الملتبسة.
ما يقلق الغرب، أو الأميركان، وإسرائيلهم، والساعاتي دينيس روس، هو أن هذه الثورة العربية الكبرى هي بلا سقوف تحد من تطلعات ثائريها، وليس من قوة بقادرة على إيقاف ساعتها الثورية الداقة، هذه التي تداعت لدقاتها المدوية مصطنع الحدود القطرية فعبرتها لا تلوى جائلة صائلة من المغارب إلى المشارق ومن المشارق إلى المغارب. والأهم، أنها ثورة وحدوية، حيث لم يتصادف أن اتحدت مشاعر هذه الأمة في يوم من الأيام مثلما هي متحدة الآن، ذلك بفضلها، حيث تقول لنا إنه لم يعد هناك من تناقض بين الوطنية والقومية، وحيث عبرت جماهيرها عن وعي رفيع وغير معهود وهي تلتقط لحظتها التاريخية وتصنعها، أو حين كشفت عن ذكاء ودهاء شعبي غير مسبوق وهي ترتب أولوياتها...
الديمقراطية تعني الحرية، وهاتان تساويان العدالة الاجتماعية، وهاته الثلاثية تعني فيما تعني التنمية والتقدم وإطلاق طاقات الأمة، الأمر الذي يعني حتمية الاصطدام لا محالة مع الهيمنة الغربية وعدوانية وكيلها الإسرائيلي، أي أن ثورة العرب الراهنة في مختلف أقطارهم، وعلى مختلف نماذجها، التي يجمعها الكثير، ولا مختلف بينها إلا في قليل التفاصيل وما هو من لزوم الخصوصيات وما يفرضه اختلاف الظروف، ليست بعيدة عن الصراع العربي الصهيوني، وأن كان لوجوب ترتيب الأولويات ولصخب ضرورة إعادة البناء إسهاماً في حجب رؤية البعض لحقيقة ذلك... أي أنها وقد قطعت كافة السبل على صهاينة العرب، قد أصبحت كل طرقها تؤدي لزاماً إلى فلسطين، ولهذا كان الفلسطينيون هم أكثر عرب الأمة إثارةً وانشداداً وتتبعاً لثواني الحدث ودقائقه وتفاعلاً معه... كانوا على حق، فقد رأوا علمهم يرفرف على رؤوس الثائرين في تونس والقاهرة وبنغازي وصنعاء... وسمعوا من يهتف بالإسكندرية: "الشعب يريد تحرير فلسطين"...
لهذا كان على دينيس روس أن يحصي أوجه ساعة الهبة الثورية العربية المنذرة ولا غرابة في أنه يعجز عن ضبطها، ولهذا يحاول غربه جهده للتخفيف من خسائره لاندلاعها، ولأنه يعترف مكرهاً على لسان هيلاري كلينتون بأن "التغييرات (العربية) تحدث من الداخل، والغرب لا يملك حلولاً سحرية لكل الأزمات" أو أزماته هو التي تقلقه بسببها، يقترح لها "خرائط طريق"، أو خرائط التفاف، هي قطعاً في حكم المرفوضة، ويحاول تدخلاً، أو على الأقل، إيحاءً به، يهدف منه تشويهاً لثوريتها، أو يتوعد مكابراً بفزاعة "كل الخيارات مطروحة"... ولهذا كان آخر تجليات معاركها التي تدور في هذه اللحظة العربية التاريخية هي عبارة عن منازلة مصيرية حاسمة بين الوعي العربي وترسانة الزيف والأضاليل والأباطيل الغربية التي خبرها العرب طويلاً ولا زالوا.
ما يشهده الوطن العربي الآن، على اختلاف أقطاره ومختلف ظروفها وخصوصياتها وأولوياتها، هو ثورة عربية واحدة لشعب عربي واحد، يثبت وحدانيتها ووحدته ما نشهده من سرعة التجاوب بين أطرافه العابرة للحدود المصطنعة، وهائل هذا التأثير النضالي المتبادل بين أقطاره المنتفضة، وتؤكده وحدة الشعارات المرفوعة وتماثل الهتافات وتشابه المطالب وتطابق الأهداف، وقبل كل هذا كان مكابدة ذات المظالم والعذابات، وتوفر ذات الدوافع الناجمة عن ذات الأتواق، وحتى وحدة موازين تحديد الأولويات... ثورة خاصة جداً لأمة تحولت بكاملها هذه الأيام إلى ظاهرة ثورية، تؤسس لحقبة واعدة لها ما بعدها الذي لا يشبه ما قبلها... هل نحن حالمون؟! ربما من حقنا هذا، لاسيما وقد تداعت الآن في بلادنا تلكم الحدود الصدئة التي كانت تفصل لعقود توالت بين حلمنا وواقعنا!
صحيفة الوطن العمانية