د. يونس الأسطل
(العبرة بالخواتيم, والصوم عاصم من السقوط في دَرْكِ البهيم)
( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( الجمعة ( 5 )
أثناء انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح كان أبرز ما يَتَغَنَّوْنَ به؛ لإعادة تسويق أنفسهم لدى الجيل الجديد من الشعب الفلسطيني, هو التاريخ النضالي, والرصاصة الأولى في مستهل عام 65م, وكأن تاريخ المقاومة على أرض فلسطين قد بدأ مع تبلور حركة فتح في شكل تنظيم مسلح؛ لتحريرها من النهر إلى البحر, مع أن الثلاثينات شهدت جهاد الشيخ عز الدين القسام وإخوانه, كما أن المقاومة التي الْتهبت في عام 48م قد شارك فيها المتطوعون من الإخوان المسلمين, وأَبْلَوْا بلاءً حسناً, بالإضافة إلى الانتفاضة الشعبية التي كانت تقاوم الاحتلال البريطاني, والاحتلال الاستيطاني, في مرات عديدة منذ العشرينات, وإلى يومنا هذا.
ومما لا شك فيه أن العبرة بالخواتيم, فقد يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب, فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها, ولن يشفع له أنه امتلك نفساً عاملة ناصبة في ماضي الأيام, والعكس بالعكس, فأحبُّ الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه, وقد وصَّاكم أنْ لا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون.
* * *
أما هذه الآية فتجعل بني إسرائيل في عدم انتفاعهم بالهدى والنور, وقد كُلِّفوا أن يقوموا بالتوراة علماً وعملاً, وأُخِذَ عليهم الميثاق لَتُبَيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه, فنبذوه وراء ظهورهم, واشتروا به ثمناً قليلاً, فبئس ما يشترون, إنها تجعل مثلهم في ذلك كالحمار يحمل الكتب الثقال, ولا يناله منها إلا التعب والنَّصَب, فقد كذبوا بآيات الله, ومنها ما يوصي باتباع خاتم المرسلين؛ فإنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالمعروف, وينهاهم عن المنكر, ويحل لهم الطيبات, ويحرم عليهم الخبائث, ويضع عنهم إصرهم, والأغلال التي كانت عليهم, وأن الذين آمنوا به, وعَزَّروه ونصروه, واتَّبعوا النور الذي أُنزل معه, أولئك هم المفلحون, فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به, فلعنه الله على الكافرين, وقد ختم الآية بأنه لا يهدي القوم الظالمين, وقد ظلموا أنفسهم بالكفر, وظلموا رسول الله بجحود نبوته, وظلموا ربهم الذي هو أعلم حيث يجعل رسالته.
* * *
إن بعض علماء بني إسرائيل كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم, ثم يقولون هذا من عند الله؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً, لذلك فقد ضرب الله جل جلاله المثل لهم بالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث, أو تتركه يلهث, وأنه ليس خاصاً بهم, بل هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله جميعا.
ولم تقتصر عقوبات بني إسرائيل على ضرب الأمثال لهم بالبهائم البليدة أو الدنيئة, بل إنهم لما اعتدوا في السبت, ولم تنفعهم موعظة الواعظين, قيل لهم: كونوا قردة خاسئين, وجعل منهم القردة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت, وكانوا شراً مكاناً, وأضلَّ عن سواء السبيل.
* * *
وهنا يطرح سؤال عن هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثاً: ما الذي دهاهم وقد آتاهم ربهم الكتاب والحكم والنبوة, ورزقهم من الطيبات, و فَضَّلهم على العالمين, وآتاهم بيناتٍ من الأمر, وقد اختارهم على علمٍ على العالمين, ثم رَدَّهم أسفل سافلين, وضرب عليهم الذلة والمسكنة, وتَأَذَّنَ ليبعثنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب؟
والجواب أن التفضيل كان بسبب أنهم استُحْفِظوا كتاب الله, وكانوا عليه شهداء, فقد جعل منهم أئمة يهدون بأمره لمَّا صبروا, وكانوا بآياته يوقنون, وقد كان منهم أمة يهدون بالحق, وبه يعدلون.
ثم إنهم الذين طهَّروا بيت المقدس من دنس القوم الجبارين بقيادة يوشع بن نون بعد انسلاخ فترة التيه, وكان منهم الفئة المؤمنة التي ثبتت مع طالوت من بعد ما زاغ قلوب كثير منهم, عندما شربوا من نهر الأردن إلا قليلاً منهم, لكنهم وهم بضع مئات قد هزموا مائة ألف أو يزيدون بإذن الله, والله مع الصابرين.
أما السرُّ الذي أودى ببني إسرائيل دون دركة الأنعام فهو انهزامهم أمام الشهوات, وبالأخص المال والجمال, فقد قالوا لسيدنا موسى لن نصبر على طعامٍ واحدٍ, فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقِثَّائها وفُومها وعدسها وبصلها, وكانوا بذلك يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير, وهو المنُّ والسلوى, ثم قالوا لسيدنا عيسى: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء, فلما طلب إليهم أن يتقوا الله إن كانوا مؤمنين أجابوه: نريد أن نأكل منها, وتطمئن قلوبنا, ونعلم أن قد صدقتنا في ادِّعاء النبوة, ونكون عليها من الشاهدين, وقد كانوا ولا يزالون آخذين للربا وقد نُهُوا عنه, أكَّالين للسحت, ولأموال الناس بالباطل, حتى إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل, ويصدون عن سبيل الله, ويكنزون الذهب والفضة, ولا ينفقونها في سبيل الله.
وأما الجمال فيكفي أن نعلم أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء, وقد ألصقوا بكثير من الأنبياء تهمة ارتكاب الفواحش؛ ليقولوا: إن تدنسهم بالفواحش ليس بدعاً من العادات, فإن بعضاً من الأنبياء قد حركتهم شهواتهم, وهم على آثارهم يهرعون, والعياذ بالله تعالى من كذب اليهود, وجرأتهم على الله تعالى, وعلى المُصْطَفَيْنَ الأخيار.
* * *
هذا وقد جاء علينا حينٌ من الدهر امتدَّ قريباً من أربعة عشر قرناً كنا فيها خير أمة أخرجت للناس, نؤدي فيها الأمانات إلى أهلها, ونحكم بين الناس بالعدل, ولم يكن يَجْرِمُكم شنئان قوم على ألَّا تعدلوا, فقد كنتم أمةً وسطاً شهداء على الناس, إلا من فترات قصيرة تمكن فيها الصليبيون من الهيمنة على كثير من بلادنا الإسلامية, كما شهد القرن السابع هجماتٍ مغوليةً ذبحت الملايين, ثم اندحرت في عين جالوت وما وراءها.
فما الذي دهانا حتى بتنا نُعْرَفُ بدول العالم الثالث, وحتى صار الحكام فينا خَدَماً لليهود والنصارى, بل أمسى بعض الكُتَّاب والمفكرين أبواقاً لكل ما يَفِدُ من الغرب غَثِّه وسمينه؟!.
إن الجواب هو الجواب عينه, إنهما الشهوتان؛ فإن أبرز مظاهر الفساد اليوم هو الاختلاسات المالية, وتصرف الحكام في المال العام, كأنه تركة الآباء والأعمام, ثم التلطخ بالفواحش؛ ذلك أن النساء من حولهم وفي قصورهم قد اتبعن سَنَنَ اليهود والنصارى, فلا تبرز إلا في أبهى زينتها, ويغريها بذلك أن الإعلام والثقافة قد صَوَّرَ الحشمة تخلفاً ورجعية, وجعل العري والعهر تطوراً وتقدمية.
* * *
إن حركة فتح, وما يسمى باليسار الفلسطيني, قد هَرِموا, وَوَهَنَ العظم منهم للأسباب نفسها, فقد تحولت الثورة إلى مشروع ثروة, وبات القادة يُشْتَرَوْنَ بثمن بَخْسٍ دراهم معدودة, أو بالبغايا والراقصات, وآل الأمر إلى القبول بدور الخادم في بلاط الأمريكان والصهاينة, والشراكة معهم, أو النيابة عنهم في مطاردة الإسلام والمقاومة, حتى إن أكثر المعتقلين على أيديهم يلتحقون بجيوش المعاقين, أو يلحقون بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين, ورحم الله تبارك وتعالى الشهيدين كما أبو طعيمة وفادي حمادنة.
إن الصوم يعلمنا كيف ننتصر على هاتين الشهوتين, فنعود سيرتنا الأولى خَيرَ أمة أُخرجت للناس, ونتحصن أمام الاحتلال الذي يَوَدُّ لو نتخلى عن المقاومة, ونُقِرُّ بشرعيته, ودون ذلك أرواحنا حتى لو نُشرنا بالمناشير, أو مُشِط ما بين لحمنا وعظمنا بأمشاط الحديد.
والله وليُّ المؤمنين.