يوسف علي فرحات
أولاً : نُذَكِّر بأن أرض المسجد الأقصى هي أرض مقدسة بغض النظر عن وجود بناء لمسجد فيها أو عدم وجوده , فهي كانت مقدسة قبل أن يبنى فيها المسجد , تماماً كما كانت الأرض التي عليها الكعبة مقدسة قبل أن يبنيَ إبراهيم -عليه السلام – الكعبة عليها . فالمكان نفسه مبارك – أي مكان أرض الكعبة – كما قال – سبحانه : - [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بي شَيْئًا] {الحج:26} فظهر من هذه الآية أن المكان مبارك مقدس , وما كان كذلك فلا يمكن أن يأذن الله - تعالى – شرعاً بأن يكون سكناً خاصاً بالمشركين والكافرين فضلاً عن أن يقيموا فيه شعائرهم الكفرية والشركية .
وكذلك الأمر في أرض بيت المقدس التي وصفت بالبركة والقدسية في آيات كثيرة . كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أسري به إلى المسجد الأقصى لم يكن هناك بناء إلا السور المحيط بأرض المسجد , ثم أضاف المسجد عليه قدسية أخرى لأنه المكان التي تمارس فيه عملية شعائر التوحيد المأمور بها , ولهذا تختص تلك الأماكن المقدسة بأن ما يقام فيها – من المساجد التي تشد إليها الرحال – أمر توقيفي , ليس لأحد أن يغير مواضع وأماكن البناء فيه , يقول ابن تيمية رحمه الله : " ولم يبن أحد من الأنبياء – عليهم السلام – مسجداً ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة " , ثم قال : " ولهذا لا يجوز تغيير واحد ممن هذه المساجد عن موضعه " [ مجموع الفتاوى 27/353]
ثانياً : من التعبيرات الشائعة خطأً بين الناس وفى سائر وسائل الإعلام وصف المسجد الأقصى أو المساحة حوله بأنها ( حرم ) , فيقال : ( الحرم القدسي ) أو ( ثالث الحرمين ) أو نحو ذلك , وهذا التعبير خطأ من الناحية الشرعية ؛ لأن المسجد الأقصى والمساحات المحيطة به مع أنها مباركة ومقدسة بنصوص الوحي إلا أن ذلك الوحي لم يثبت لها حكم ( الحرم ) الذي تتعلق به في الإسلام أحكام خاصة , مثل ألا يُقطع شجره , ولا ينفَّر صيده , ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته , إن تلك الأحكام ثابتة في حرمي مكة والمدينة ولها تفاصيلها في مظانها من كتب الفقه , أما أرض المسجد الأقصى , فلم يتعبدنا الله – تعالى – بهذه التكاليف فيها على ما قرره أهل العلم , وإذا كان وصف ( الحرم ) لا يصدق على المسجد الأقصى ؛ فإنه لا يصدق على المسجد الابراهيمى من باب أولى , فلا يصبح أن يقال : ( الحرم الابراهيمى )
يقول ابن تيمية – رحمه الله - : " وليس ببيت المقدس مكان يسمى ( حرماً ) ولا بتربة الخليل , ولا بغير ذلك من البقاع , إلا ثلاثة أماكن : احدهما : هو حرم باتفاق المسلمين , وهو حرم مكة شرفها الله – تعالى - . والثاني حرم عند جمهور العلماء , وهو حرم النبي صلى الله عليه وسلم من عَيْر إلى ثور . بريد في بريد ؛ فإن هذا عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد , وفيه أحاديث مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم , والثالث ( وج) وهو واد بالطائف . فإن هذا روي فيه حديث رواه أحمد في المسند , وليس في الصحاح , وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث , وليس حرماً عند أكثر العلماء , وأحمد ضعَّف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به , وأما سوى هذه الأماكن الثلاثة , فليس حرماً عند أحد من علماء المسلمين , فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته , ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجا عن هذه الأماكن الثلاثة " [ مجموع الفتاوى 27/14-15] .
ثالثا : الصخرة لا تتعلق بها عبادة خاصة في الإسلام , وعلى الرغم من التاريخ الديني العريق لها قبل الرسالة إلا أن دين الإسلام حصر التعظيم على سبيل التدين والتقرب في المسجد الأقصى , وهو الذي بناه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في مكانه القائم به الآن , ولم يرض عمر – رضي الله عنه – إن يبنى المسجد خلفها , حتى لا تتحد قبلة للمسلمين بعد أن نسخ الله التوجه إليها بالكعبة المشرفة .
يقول ابن تيمية – رحمه الله - : " وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان , فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة , كما أن يوم السبت كان عيداً في شريعة موسى - عليه السلام – ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة , فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى , وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى " [ الفتاوى 27/12-13]
ولكن باعتبار إن مسجدها يدخل ضمن الأرض التي يطلق عليها وصف ( المسجد الأقصى ) , وهو كل ما كان بداخل السور ؛ فان فضائل المسجد الأقصى تعم أرض المسجد المقام على الصخرة , دون أن تختص الصخرة نفسها بعبادة خاصة , ولكن تبقى الصلاة في المسجد المخصوص الذي بناه عمر – رضي الله عنه – أفضل من سائر المساحة المباركة داخل السور .
قال ابن تيمية : " فان المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام , وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – في مقدمه . والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد " [ المصدر السابق 27/11] .
رابعاً : من المعروف أن المسجد الأقصى هو ثاني المسجدين حيث بني بعد مسجد الكعبة ، كما روى البخاري عن أبَي ذَرٍّ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ وَكَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ عَامًا وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّ ) .
وهذا يؤكد أن الوجود الإسلامي في المدينة قبل الوجود اليهودي وأن المسجد الأقصى أسبق من الهيكل . لكن تذكر مصادرنا الإسلامي أن سليمان عليه السلام هو أحد الذين جددوا بناء الأقصى ، فقد أخرج أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ ( لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا : حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ ، وَمُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَلاَّ يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فِيهِ ، إِلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ ) .
وهذا الذي بناه سليمان عليه السلام ربما هو الذي يصفه اليهود بالهيكل ، وبغض النظر عن الوصف إلا أن سليمان بناه كبيت للعبادة وتوحيد الله سبحانه ونحن المسلمين أولى بسليمان عليه السلام من اليهود