بقلم يوسف حمدان
بطريقةٍ "استفزازية" تحاول "إسرائيل" الضغط على غزة لتبقى في موقف مُحرج أمام النداء بضرورة الرد على الهجمات، من جهة، وأمام التفكير الواقعي بأهمية تجنيب المنطقة حرباً تستفرد فيها "اسرائيل" بالقطاع، من جهة أخرى ، تحديداً في هذا الوقت الحرج الذي تعيشه الأمة والشعوب العربية .
فينادي أصحاب هذا الصوت بضرورة تفويت الفرصة على العدو وسحب الذرائع من أمامه، وعدم الانجرار خلف استفزازاته، والتعامل بحكمة ومسئولية أكبر تجاه الشعب، وإتاحة الفرصة أمام المجاهدين لإعداد العدة وتمتين الجبهة الداخلية والتقاط الأنفاس بعد الحرب الأخيرة على غزة .
في حين تُصرِّح حركات الجهاد والمقاومة، بأن صبرها بدأ ينفد ، وأنها لا تستطيع أن ترى أبناءها وقادتها يستهدفون بشكل سافر مستفز، وتبقى هي تكتم غيظها وتضبط يدها على زناد سلاحها، سيما وهي تدرك أن الشباب المتحمس للجهاد والقتال بات يعلو صوته المطالب بضرورة عدم إمهال العدو فرصةً للتهرب من دفع ثمن فاتورة اعتداءاته المترصدة .
معادلةُ صعبةُ إذا، تلك التي يتحدث عنها أصحاب الواقعية السياسية هذه الأيام ، فلا أظنهم يقصدون بالواقعية السياسية ، الرضى بهذا الواقع الذي تريد أن تفرضه علينا "إسرائيل" والإستسلام لاختلال موازين القوى، وتقبل حالة الضعف ، والتماهي مع متطلبات المرحلة وشروط اللعبة الجديدة .
بل هي واقعيةٌ تتفهم طبيعة الظرف الذي نعيش بكل مكوناته ، وتسعى للارتفاع بهذا الواقع للمستوى الذي نطمح ونريد ، في تدرجٍ وحكمةٍ وعلى قدر الوسع والاستطاعة .
واقعيةٌ تتفهم العاطفة ولا تنقاد لها ، ولا تحرفها عن هدفها المرسوم ، واقعيةٌ سياسيةٌ ناضجة تعكس كفاءةَ سياسية في إدارة الصراع الخارجي من جهة، وفي اقناع الصف الداخلي من جهة أخرى، وفي نفس الوقت تحافظ على تنسيقٍ عالي المستوى بين القوى الفاعلة في الميدان، وتهتم بالقبول والاحتضان الشعبي لفكرة وأدوات وممارسات القتال والجهاد .
واقعيةٌ سياسيةٌ عملية مثلَّها النبي "ص" وهو يُمرحِل جهاده ويضع أهدافاً سياسيةً لكل مرحلة ، ويجعل القتال وسيلةً لتحقيق هذا السقف الممكن في هذه المرحلة ، فمثلاً في صلح الحديبية في العام السادس للهجرة حينما قصد مكة ، وضع هدفاً واضحاً وهو "الذهاب للعمرة" وفيه بعداً سياسياً وهو "أن تسمع العرب أن النبي "ص" ذهب لمكة رغماً عن قريش مستفيداً من قوانين قريش ذاتها"، فيعطيه ذلك حضوراً سياسياً مفيداً جداً لدعوته في ذلك الوقت.
ثم وضع البدائل المتاحة، في حال صدت قريش المسلمين وفُرض عليهم القتال، فقال:"فإن صدونا نقاتل" ، وحرص النبي "ص" على تجنب القتال في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة من تاريخ دعوته بقدر الإمكان ، حتى مع استفزازات قريش المتكررة ومحاولتها اعتراض المسلمين في انتهاكٍ واضحٍ وتعدٍ سافر على المواثيق والأعراف التي كانت تحكم مكة وقتئذ ، وفي نفس الوقت واجه النبي "ص" متغيرات الواقع الجديد حينما أشيع قتل قريش لسفير المسلمين بالنفير العام داخل الصف وبايع الجميع قيادته في" بيعة الرضوان" على الموت دون التنازل عن الثوابت أو التفريط بدماء الشهداء.
وفي واقعيةٍ سياسيةٍ تتفهم الواقع ولا تعرف التنازل عن المبادئ والثوابت، قال كلمته المشهورة "والله لا يعطونني خطة رشدٍ يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، في إشارةٍ واضحةٍ إلى إن فهم الواقع وإدراك موازين القوى والنظر لمآلات الأمور لا يعني بحال تجاوز الثوابت والمبادئ والحرمات التي سماها" حرمات الله "،ولكن في نفس الوقت دون السماح لدائرة الثوابت أن تتسع ، وأن يدخل فيها ما ليس منها.
وبواقعية سياسية رائعة تتفهم طبيعة المرحلة ، وتتجاوز ردود الأفعال، وضع "ص" هدفاً سياسياً يمكن تحقيقه في تلك الفترة ، ثم وظَّف القتال لتحقيق هذا الهدف ، وأعطى هدنة أو تهدئة لمدة عشرة سنوات، أبدى أثناء التفاوض عليها، مرونة واضحة في مساحة المتغيرات والفرعيات التي قد تبدو للبعض أنها من الثوابت، في حين أنه "ص" أبقى دائرة الثوابت حصينةً منيعةً ولم يقترب منها نص الاتفاق .
وتم توقيع اتفاقية التهدئة أو الهدنة أو الصلح المؤقت مع قريش ، رغم أنه "ص" كان أشجع البشر وكان معه خير الناس ، وكان يقاتل معه ملائكة السماء ، وبرغم أن مكة كان فيها أكثر من ثلاثمائة صنم حول الكعبة ، وتحكمها سلطة الكفار ، ويقام فيها الشرك لمدة عشرة سنوات، ومع ذلك قَبِل بهدنة مؤقتة، يحقق فيها أهدافاً سياسية محددة.
لقد وافق النبي "ص" على إعطاء الهدنة لقريش مقابل شروطٍ رآها أصحابه وقتئذ بأنه شروط مجحفة في حق المسلمين لكنه "ص" كان يرى أن تحقيق أهداف دولته السياسية، وتحقيق عالمية دعوته المباركة سيكون أسرع وأبلغ في ظل تأمين جانب مكة وتحييد طرف قريش في فترة باتت فيها الدعوة أحوج ما تكون لذلك ، متجاوزاً نداء العاطفة الذي ينادي بمواجهة قريش وتأديبها.
وحفاظاً على حالة التنسيق والتماسك الداخلي للصف ، تفهم "ص" ردة فعل الصحابة حينما كادوا أن يعصوه "برفضهم النحر والحلق" والعودة للمدينة ، فنظر بواقعية إلى بشرية وفطرية تصرفهم، فقرأ على "عمر" دون تأنيب أو تعقيب سورة "الفتح" كاملة ، التي تشرح الأبعاد السياسية للصلح .
واقعية.. تتفهم طبيعة النفس البشرية، وتدرك موازين القوى ومتغيرات المرحلة وتستعد لكل الخيارات، وتتحرك في مساحة الممكن، وعلى قدر وسع الناس واستطاعتهم، لتأخذ بأيديهم نحو ما تُريد، بترفقٍ وتصبرٍ وسعة أفقٍ ومسئولية.