الرسالة نت-كمال عليان
لولا لون البشرة القمحية وملابس الشرطة الزرقاء، وازدحام المواطنين والأطفال من حولهم، لظنّ المراقب أنّ المشهد الذي شهدته مدينة "الكرامة" أمس، لم يكن في غزة ، هناك حيث بيت مهجور، والشارع الهادئ الذي كان يصدر أنينا خافتا، والذي سرعان ما تبين مصدر الصوت، إنه المبنى الذي قتل فيه المتضامن الإيطالي " فيتوري اريغوني" والذي يبدو، كشبحٍ ضخم، لا يشبه المباني الأخرى القريبة التي تحاصره.
وعثرت اجهزة الامن الفلسطينية فجر اليوم الجمعة على جثة المتضامن الإيطالي مقتولا بعد ساعات من اختطافه على أيدي مجهولين، الامر الذي وجد استنكارا واسعا من كافة شرائح المجتمع الفلسطيني.
داخل أحد المحال المجاورة تجلس سيدة سبعينية ودودة، السقف في محلها مرتفع، يُشعر الداخل إليه بنوع من الألفة، على نقيض المحال الجديدة التي تبدو سجونا ملوّنة لشدة ضيقها، تتحدث السيدة العجوز عن الجريمة بشغف مفرط رغم أن ذاكرتها بالكاد تسعفها على تذكر الموقف.
تدير الحاجة أم خالد وجهها يميناً إلى جهة شارع الجريمة وتتذكر تفصيلاً هاماً: " منطقتنا هادئة ولا يوجد فيها ازعاج أو "دوشة" ولعل هذا ما شجع المجرمون على القدوم إلى هنا وتنفيذ جريمتهم البشعة". كان ذلك في معرض حديثها عن ما تذكره ليلة أمس الخميس.
وتعاود الصور والأصوات غزو رأسها في تلك الليلة وتقول:" كان بعض الشباب يلتقون لساعات قرب هذا المبنى ولكن بشكل عادي ودون أي شكوك"، قاصدةً المبنى الشبح، وهو شبح لأن روحه ماتت، وروح من نفذوا الجريمة فيه قد ماتت أيضا.
تركنا الحاجة صاحبة المحل تكنس باب دكانتها المبنية منذ عشرين عاماً، ولا تكنس ذاكرتها المليئة بالأحداث الساخنة على مر السنين، متمنية أن يكون آخرها جريمة الأمس.
وبالقرب من مكان الجريمة، لا تجد فيه سوى الأشجار العملاقة التي كانت شاهدة على من نفذوها لأنها أشجار، وأما الشارع، كما تشير لافتة زرقاء أخرى، ما زال شارع "الكرامة"، تلك المعركة التي علّمت الصهاينة من هو الشعب الفلسطيني بمقاومته وجهاده وليس بتكفيره وقتله للمتضامنين.
أحد سكان المنطقة يشير إلى أنه جديد هنا، منذ عام تحديداً، يؤكد أنه لم يكن يتصور أن تحدث جريمة بحق أحد المتضامنين الاجانب مع الشعب الفلسطيني، مبديا استغرابه من عقلية وتفكير المجرمين.
وبينما كان ُيطبق كفه على الآخر يقول:" لا حول ولا قوة الا بالله أين عقول هؤلاء، وكيف يأتي لهم القوة بقتل رجل ترك بلاده وأهله وجاء ليناصر شعبنا المحاصر في غزة، ياللعار".
وفي ذات المنطقة كان أحد رجال الشرطة على بوابة الشارع "اليتيم"، نصحنا بعدم الاقتراب من المكان أكثر مما اقتربنا للتحدث مع الجيران، فيصعب التصديق أن هناك سكاناً في الأساس. كيف يقطنون في مكان الجريمة؟ وفعلاً، لم يرغب أحد في الحديث.
ذلك لم يمنع بعض الفضوليين من استعادة المشهد كما كان ليلة أمس. يحدد خمسيني جالس على كرسي خشبي قديم موقع الجريمة بالضبط، ويشير: «هذا المبنى المهجور هو مكان الجريمة".
وبينما كان الحزن قد ارتسم على ملامح وجهه يؤكد أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى هؤلاء المتضامنين أيا كان دينهم،" فيكفي أنهم جاؤوا للتضامن معنا"، داعيا الحكومة والأجهزة الأمنية إلى زيادة حرصهم وحراستهم لكل المتضامنين في غزة.
ربما تعود الحياة في غزة إلى طبيعتها خلال ساعات، وربما أيضاً، يتغافل المجرمون عن جريمتهم، ولكن لن ينسى أهل غزة " فيتوري اريغوني"، وسيبقى اسما لامعا في سجل من ضحوا بحياتهم من أجلها، ولعل "راشيل كوري" أكبر دليل على ذلك.