مهما قيل في تبرير عملية إطلاق النار التي أدت إلى مقتل وجرح بعض المستوطنين في نابلس، فإن ذلك يكشف –بكل جلاء- عن فشل منظومة البناء القيمي التي تعاهدتها السلطة مع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي لإعادة صياغة الشخصية الفلسطينية الأمنية على أسس ومفاهيم وقناعات جديدة لا تمت للوطن وحقوقه وثوابته بصلة.
من المبكر إعلان فشل المشروع الأمني الذي يتولاه الجنرال "مولر" خلفا للجنرال "دايتون" على أرض الضفة بشكل تام في المرحلة الحالية، لكن بوادر الفشل تتوالى تترى، ولن تلبث المرحلة المقبلة أن تراكم مزيدا من الفشل وصولا إلى الفشل التام.
خسر رهان الإدارة الأمريكية وحلفاؤها في غزة، وسوف يخسر رهانهم أيضا في الضفة ولو طال الزمن، رغم قناعاتنا واستشرافنا للمستقبل الذي يؤكد أن آية الفشل الكبير وبرهان انكسار مشروع "الفلسطينيون الجدد" قد أضحى قريبا، بل وربما أقرب مما يتصور الكثيرون.
هناك فرق بيّن وبون شاسع بين القيادات المتعفنة التي أدمنت العيش ذنبا للاحتلال، وترعرعت في أفياء التعاون الأمني البغيض، وبين العناصر التي تجهد المحاولات الدؤوبة لطمس روح الوطن في نفوسها، وتحويلها إلى هيكل جسدي خاوٍ من أي قيمة وطنية، ولا همّ لها إلا الراتب الشهري، وليكن من بعد ذلك الطوفان!!
من الصعب أن تنجح آلة الدعاية والإغواء في مهمتها السوداء وفق ما خُطّط لها، فالفلسطيني –أيا بلغت ارتكاسته الوطنية والأخلاقية- في وقت من الأوقات أو مرحلة من المراحل، قابل للأوبة الصادقة والعَوْد الحميد، ولن يحتاج الأمر سوى إلى تذكير ببدهيات الانتماء إلى الوطن، وأمجاد الماضي، وتضحيات الغابرين، وواجبات التحرير، كي يؤوب من بعد إلى رشده، ويعلن توبته عن مسار الذلة والهوان، والعودة إلى حضن الوطن ودأْبُ الشرف والكرامة والانتصار.
لا يمكن إنكار الواقع المرير الذي تعيشه الضفة حاليا، وحجم عملية غسل الأدمغة التي تتعرض لها العناصر الأمنية هناك، لكن حب الوطن يبقى أقوى من كل سموم الفتنة والارتداد، وملوثات الأمن والسياسة ذات النكهة الإسرائيلية الأمريكية البائسة.
وتبقى الآثار المطبوعة في العقول والأفئدة المستهدفة أشبه ما يكون بالغبار أو الأتربة التي تعلو المعدن النفيس، وسرعان ما تزول مع أول جهد حقيقي يستهدف وضع النقاط على الحروف وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.
لا نحتاج سوى إلى إعطاء فرصة لجهود المصالحة الوطنية، واستعادة التوافق الداخلي، كي تبدأ مرحلة جديدة من إعادة الاعتبار لمشروع التحرر الوطني، وصبّ الجهود والطاقات في مسار خدمة قضيتنا لا خدمة مصالح واحتياجات الآخرين.
لذا، فإن تصريحات السيد محمود عباس التي أصر فيها على نفي أي إمكانية لاندلاع انتفاضة ثالثة، تحاكي قناعات مسبقة ضالة، وأمنيات خائبة، وترسم طريقها نحو الاستهلاك الخارجي ليس إلا، ولا تعبّر عن واقع الألم والمعاناة الذي تحياه الضفة، ويختزن في ثناياه وقود الثورة وبذور الانفجار.
لن ينضب معين أملنا في تنسّم عبير المصالحة، فهي مفتاح العبور نحو استعادة الضفة الغراء من انقلاب المعايير والمفاهيم الوطنية، وتضميد جراحاتها التي عطلت دورها في قيادة مشروع التحرير والالتصاق بقضايا الوطن وهموم القضية حينا من الدهر.
لأجل ذلك فإن جواذب المصالحة ستعلو على ما سواها خلال الفترة المقبلة.. وحينها لن تكون الانتفاضة الثالثة إلا مسألة وقت ليس أكثر.