قائد الطوفان قائد الطوفان

قلوب متصدعة

بقلم: رشا فرحات

صورة ملونة

منذ عشر سنوات، أحضروه إلى بيتنا، أدخلوه إلى غرفتي التي تحوي، دثاراً قديماً صنعته جدتي منذ عشرين عاماً، ومخدةً من ثياب أبي القديمة، وجدران مثلجة، سوداء اللون، وفرحت كثيراً بزيارته، كان يحمل في يده كاميرا أيضاً سوداء اللون، صوت لقطاتها، كأنها طلقات رصاص ضوئية على وجهي، طلبت مني أمي الاستدارة مراراً حتى تتضح الصورة، ضحكت، فأمروني بالعبوس، لا أدري لماذا!!

مدت قدمي، أعطيت صاحب الكاميرا، وصفاً دقيقاً لأوجاعي التي ما فتأت تلتصق بي منذ خرجت بنصف رجل إلى عالم ليس لي، وصفت له برد الشتاء، ودلف سطح الأسبست في غرفتي، دوّن كل ملاحظاته وانصرف، ولم يعد حتى الآن.

الصديق اللص

مد يده في جيب الصديق الجالس بجانبه والتزم الصمت هادئاً ، مستريحاً، بما أخفاه من غنيمة يسميها رزقاً منذ سنوات، دون وجل ودون خجل، ودون تأنيب للضمير، التهم طعاماً قدمه له صديقه الكريم، ودون الالتفات إلى شكوى صديقه الذي لم يعد في جيبه ما يلهمه حياة حتى آخر الشهر، ضحك  بطريقته ثم انصرف، يحمل في جيبه ما قال أنه غنيمة، وفي منتصف الطريق أخرج مال صديقه المغتنم ليعده فرحاً بما يصر على تسميته رزقاً، سقطت الغنيمة من يده، فالتقطتها يد مسرعة مرت بجانبه مثل ريح عاتية، واختفت اليد بعيدة، فرحة والغنيمة عادت إلى حيث جاءت، وعاد هو خائب اليدين.

صوت الحق

وقفت لتجادل جارتها، كعادتها، تدعي خبرتها، في أحكام الحلال والحرام، ارتفع صوتها مصرة على نصها، صوت جارتها أيضا يرتفع، كلاهما تريان الصدق يلوح أمام أعينهما، تصران على الخطأ، الظلام يلج أرضاً فسيحة الأرجاء، واسعة لا خضرة فيها ولا ماء، يركضان مثل فرسين تخلصا من لجام ضيق، وركضا لا يعرفان الطريق، ارتفعت الصرخات، ازدادت المقاطعات، تدخلت جميع الجارات، حكت قصتها، أصرت على روايتها، وجارتها تنص بأعلى صوتها، تدعي الصدق، صرخاتهما فرقعات تخلو من حقيقة، ارتفع صوت للحق من بعيد، نادى المنادي، هناك حكم الشرع، هناك حكم القانون، ما زالت كلاهما تصر على رأيها.

جبناء وطاغية

حمل على ظهره معطفه القديم، رماه في أول سلة للمهملات، ركض إلى أخر الطريق، سرق معطف الرجل الواقف في انتظار المجهول، مشى قليلاً، مال على رجل أخر، نزع عنه ملابسه واقتطع من جسده قطعة لحم والتهمها، ثم دخل بيت تلك المرأة التي يرقبها منذ زمن، أغتصبها بدون مبالاة، زوجها متفرجاً، لم يتحرك،أشهر سيفه قاطعا رأس زوجها، حمل أطفالها وتحت تهديد سلاح صدقوا بأنهم أصبحوا من صلبه، وفي المحكمة أقنعهم أنه لم يكن هو، وتحت تهديد السلاح صدقوه، رفع أعلامه عائداً إلى قصر كبير، وتحت تهديد سلاحه أصبح قائداً للقبيلة، أغتصب كل نساء القبيلة، أكل لحوم أطفالهم، وما زال سيفيه يقطع في رقاب رجالهم حتى اليوم، وما زالوا على صمتهم.

بحكم القانون

هو لا يدري ، أين ذلك القانون، ولم يقرأه يوماً، لكنه بحس عقله القديم الذي لا يعرف الكتابة، لم يصدق، ولم يقتنع، لم يكن معه سوى مفتاح قديم، وورقة ثبوتية مغبرة بنية اللون، لا يعرف ما بداخلها من حروف، لكنه يذكر يوم أن أغلق الباب، ولم يعد إلى المكان ثانية، اليوم عاد، لكنه لم يجد بيته، بل وجد بدلاً منه مقبرة قديمة، وزهور أقحوان، وشجرة الزيتون ذاتها ما زالت تنتصب، بحث عن الباب، لا باب هنا ولا كتاب، مزق الورقة، علق المفتاح على رأس قبر قديم، رحل متمتماً، هل يا ترى سيتذكرون أن يكتبوا في كتب التاريخ، أن بيته قد سرق وأن المفتاح لم يعد له باب، وأن القانون في مدينتنا قد حول بيوتنا إلى مقابر دون أن ندري.

زنزانة سوداء

واحد، اثنان، ثلاثة، منذ قالوا أن الدنيا في الخارج قد أصبحت نهاراً وأنا لا أصدق، البرد قارص، افرك يداي، أعد مرة بعد مرة، لعلها تلتمس شيئاً من حرارة احتكاك الأصابع، انظر إلى النافذة، أتوه في متاهات الجدران السوداء، النافذة لا تريني ضوءاً، استمع إلى لهاثهم، قريبون مني، يلتصقون بي، لقد أصبحنا خمسون في زنزانة واحدة، العتمة موحشة، الألم في الأجساد يزداد، واحد اثنان ثلاثة، لا أذكر عدد السنوات، كل ما أذكره خطوط مشيب، وتجاعيد وجه، وعيون لا ترى الضوء، هي أوجاع واحدة لخمسون جسد يلتصقون في جسدي، نظرت إلى وجوههم، نظروا إلى وجهي، كبروا كثيرا، وكبرت، ضاع العمر، ما زلنا نبحث عن ضوء الشمس.

البث المباشر