د. عدنان أبو عامر
عاشت الساحة السياسية والأمنية والإعلامية في إسرائيل يوماً استثنائياً، بفعل التغطية الماراثونية على مدار الساعة لاغتيال "أسامة بن لادن"، زعيم تنظيم القاعدة، باعتباره حدثاً إسرائيلياً من الطراز الأول، حيث أطلع الرئيس الأمريكي السفير الإسرائيلي في واشنطن "مايكل أورن" قبل لحظات من خطابه على التطورات الدراماتيكية في القضية.
فقد اعتبرت أوساط أمنية إسرائيلية أن الاغتيال يعتبر أحد الإنجازات "العسكرية الإستخباراتية النفسية والأخلاقية" المهمة للغاية للولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، بعد "العدد اللانهائي من الإخفاقات" في القبض عليه، وسخرية العالم من الاستخبارات الأمريكية، والتشكيك في قدرتها على النجاح في مهمتها، حيث لم يكن "بن لادن" أهم مطلوب حول العالم فقط، لكنه بالنسبة للولايات المتحدة، العدو رقم واحد طيلة عقد من السنين.
كما خصصت الولايات المتحدة الأمريكية جائزة مالية قدرها 25 مليون دولار لمن يجلب معلومات حول موقع اختبائه أو تحركاته، لكن الانتقام منه كان أكثر بكثير، فالمجتمع الإستخباراتي الأمريكي بجميع وكالاته، بما في ذلك "وكالة الاستخبارات المركزية، وكالة الأمن القومي"، المسئولة عن اعتراض البث وحل الشفرات، لم تدخر وسيلة مالية أو تكنولوجية ولا طاقة بشرية، لتلقي القبض عليه حياً أو ميتاً، ومن الممكن الافتراض أن البحث عنه كلف دافع الضرائب الأمريكي مليارات الدولارات، وقد تبين أن كل "سنت" دُفع كان يساوي ما دُفع من أجله.
علماً بأن النجاح الذي تحقق يعتبر دليلاً على الصبر الذي يتطلبه عمل الاستخبارات، التي تتربص بالأهداف كـ"الصياد وفريسته"، وفي بعض الأحيان لا تأتي فريستهم، وأحياناً يتربصون بها في المكان غير الصحيح.
التفاصيل الاستخبارية
وبالرغم من أن معظم التفاصيل التنفيذية غير معروفة، يتضح من بيان "أوباما" والبيانات الصحفية لموظفي الإدارة الأمريكية أن ما حدث في الأساس كان عملية استخبارات بشرية تعتمد على معلومات مصدرها شخص أو أشخاص، بعد أن اتضحت الصعوبة البالغة في تحديد موقعه، لأنه لم يستخدم الهواتف، أو الوسائل التكنولوجية، أو الرقمية الأخرى خشية أن يترك بصمته، ويُسهل على مطارديه تحديد مكانه، حيث اعتاد نقل أوامره من خلال بيانات مكتوبة مشفرة.
ويؤكد الحدث أن بداية المعلومات التي أدت لاغتياله وصلت على خلفية التحقيقات مع معتقلي "غوانتنامو"، خاصة المقرب منه خالد شيخ محمد، أحد مسئولي القاعدة الكبار، حيث أسفرت عن تحديد عدد من النشطاء المقربين لبن لادن، ورصدتهم الاستخبارات الأمريكية، فيما وصلت المعلومات الأولية حول أحد مقربيه، الذي عمل موصلاً للرسائل قبل أربعة أعوام، لكن الاستخبارات كان ينقصها تفاصيل أخرى، واستمر جمع المعلومات، وتوسيع دائرة المعرفة، وقبل ستة أشهر أصبح مكان اختبائه معروفاً.
كما تم الكشف عن مصادر بشرية أخرى تنتمي للدائرة الأبعد والأقرب لمجموعة الأشخاص الذين وثق بهم، وعلموا مكانه، والأساس الذي وجه الاستخبارات الأمريكية كان القاعدة المعمول بها في أجهزة الأمن: "تعقبوا الأموال"، وتم رصد أشخاص يقومون بتوصيل الرسائل والأموال إلى أحد المناطق في باكستان، حيث اختبأ بن لادن بداخلها مع زوجاته.
ويفترض من الناحية الأمنية أنه لو تم إدخال الاستخبارات الباكستانية في اللحظة الأخيرة إلى صورة العملية، لفشلت تماماً، بعد تسريبات "ويكيليكس" التي أظهرت أن "السي آي إيه" لم تثق فيها، وتثار الشكوك حول عدد من مسئوليها بأنهم يتعاطفون مع طالبان والقاعدة، ويكرهون الولايات المتحدة الأمريكية.
الراعي الروحي
في حين تشير محافل أكاديمية إسرائيلية متابعة لشئون تنظيم القاعدة، أن ما وصفتها بـ"الضربة" التي تلقتها الحركة الجهادية هائلة، فلم يكن بن لادن رجل عمليات يصدر أوامر لتنفيذها، لأنه مريض ومستنزف جراء ملاحقته، لكن روحه كانت كافية، ولم يكن تنظيم القاعدة يمتلك مركزاً واحداً ثابتاً، وقاعدة مركزية منذ الحرب في أفغانستان التي أسقطت طالبان، وتشتيت أتباعه في كل اتجاه.
لكن فكرة الحرب المقدسة ضد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، مازالت قائمة، وفي أنحاء العالم الإسلامي والتجمعات الإسلامية في الغرب هناك أتباع جدد له، مؤيدون ومعجبون ساروا على دربه، وعلى الرغم من التأثير المعنوي والنفسي لأتباعه، فإن اغتيال "الراعي الروحاني" ليس نهاية الفكرة، فمسيرة العنف والحرب ضدها ستستمر.
من جهتها، اعتبرت محافل عسكرية إسرائيلية أن هناك قيمة رمزية في الأساس للاغتيال، فهو لن يؤدي لنهاية العمليات الدموية بوحي متعصب للجهاد العالمي، الذي انتمى إليه زعيم القاعدة، ولن يمنع عمليات ستحاول الانتقام لدمائه، لكن الولايات المتحدة نجحت في ترميم، ولو قليلاً، صورتها في العالم، وهذا حقيقة كل شيء.
كما يأتي الاغتيال لإغلاق الحساب معه، بعد أن كانت النوايا باعتقاله بشكل هادئ، كحالة صدام حسين، لكن القوة الخاصة كُشفت، وتعرضت للهجوم، وحقيقة أن الأمريكيين لن ينجحوا في القبض عليه، لخلق تأثير معنوي رادع، فقد شكل ذلك إحباطاً محدداً.
الخطأ الميداني
لاشك في أن صورة الولايات المتحدة في المنطقة، التي تلقت ضربات بالغة في الفترة الأخيرة، ستتعزز، وهذا الأمر مهم جداً في هذه الأيام، وستحاول فيها ممارسة تأثيرها، وتكسب الأنظمة التي ستدير أمور الشرق الأوسط في الأجيال القادمة، والرئيس "اوباما، الذي أسرع إلى نسب الإنجاز لنفسه بحماس سياسي، سيحظى بعلاوة أمام الرأي العام الأمريكي والعالم، وهناك شكوك في أن هذا الأمر سيساعده في الانتخابات القادمة، بعد عام ونصف، وحتى ذلك الحين، سيكون هذا الإنجاز قد أصبح في طي النسيان، ومن سيحسم الأمر هو الاقتصاد.
علماً بأن متخصصين إسرائيليين في شئون القاعدة قللوا من قيمة الاغتيال، لأن تنظيم القاعدة عمل وفقاً لأيديولوجية واسعة النطاق، ولم يرتكز على شخص واحد، فعناصره متواجدون في كل أنحاء العالم، ما يعني أنه تم اغتيال "دليل الطريق"، لكن "طريق" بن لادن بقيت وستبقى.
مع العلم بأن حقيقة اغتياله في ضواحي إسلام آباد لم تكن مفاجئة، فالكثير من النشطاء الكبار لتنظيم القاعدة، ومن بينهم من أدار هجوم 11 سبتمبر ومساعده الشخصي، ضبطوا في مدنها، وآثار أعضاء الخلايا التي عملت في الغرب، قادت إلى باكستان، حتى مكان الاختباء، ومعسكرات التدريب، وبؤرة عمليات عناصر القاعدة في السنوات الأخيرة توجد في الأراضي الواقعة تحت السيادة في المنطقة القبلية الباكستانية، والآن اتضح أن زعيم القاعدة وجد ملاذاً في عاصمتها.
ولا يتوقع للاغتيال أن يضرب بشكل فوري أنشطة التنظيم في المستقبل القريب، فقد خلق "بن لادن" كياناً هرمياً لديه قدرة أداء وبقاء هائلة، وليس مرهوناً به وحده، ولديه آلية عمل يمكنها أن تستبدل من قتلوا في الطريق، وتكرر ذلك طيلة سنوات، ما يعني أن المستقبل القريب سيشهد محاولات من قبل زعماء القاعدة الذين تبقوا، لإثبات أن اختفاء زعيمهم لا يشكل نهاية إرثه، من خلال عمليات انتقامية مؤلمة.
ويوصي الإسرائيليون نظراءه الغربيين في ملاحقة القاعدة بقولهم: إن استمرار توجيه ضربات مباشرة، واعتقالات ضد زعماء التنظيم ونشطائه التنفيذيين الكبار وشركائهم في الجهاد العالمي، بجوار إستراتيجية عمل شاملة ضد الرؤية التي ينشرها التنظيم في أنحاء العالم، من شأنها التسبب بشكل تدريجي في تراجع مستوى التهديد الذي وضعوه أمام دول كثيرة في العالم منذ بضعة عقود.