بقلم النائب- إبراهيم دحبور- جنين
أحدثت الدقائق التسعة التي شغلتها كلمة السيد خالد مشعل، في حفل توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية في القاهرة يوم الرابع من أيار الجاري، صداً كبيراً لدى الأوساط الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية، واعتبر عدد من المراقبين أن مشعل استثمر هذا الوقت القصير باحتراف غير مسبوق، ليوصل العديد من الرسائل المحددة والواضحة والمباشرة للمجتمع الدولي والأطراف الخارجية الراعية والداعمة للمصالحة، بنفس قدر اهتمامه بتوجيهها للفصائل وللشعب الفلسطيني المحتاج للمصالحة، وهو ما اعتبر وبلا شك، حنكة سياسية لدى قائد حماس، ونم عن كثير من الوضوح في الرؤية، والتصويب بدقة نحو الهدف.
وقد فَهم البعض من هذه الرسائل، أن هناك طرحاً سياسياً جديداً لدى حماس، وتبدلاً في تعاطيها مع القضايا المحورية والأساسية، من محاور القضية الفلسطينية، سواء ما يتعلق "بعملية السلام" ومنحها فرصة جديدة، أو التعاطي بشكل جديد مع المقاومة وبكافة أشكالها، أو الدولة الفلسطينية المنوي الإعلان عنها في أيلول القادم من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، وقال المراقبون أن هذه الرسائل تشير، إلى أن حماس لم تعد تختلف عن غيرها من الفصائل الفلسطينية، وأنها تسير على ذات الطريق، وستصل إلى ذات النتيجة!!!!.
والذي يهمنا في مقالنا هذا، هو التعليق على رسالة واحدة من الرسائل التي تضمنها خطاب مشعل، وهو الجزء المتعلق بالدولة الفلسطينية، لنرى هل ثمة جديد في الطرح، أم أنه كان منسجما مع تطور فكرة الدولة فلسطينية في أراضي الـ67 كما طرحتها حماس منذ عام88، وصولاً لتحديد هويتها ومعالمها كما وردت في كلمة مشعل في القاهرة؟ ولنتحقق هل كان حديثه انفعالياً وموسمياً، أم كان نابعاً من رؤية واضحة، وتسلسل تاريخي منطقي ومنهجي محدد؟
وبقراءة موضوعية ومحايدة للعبارات المحددة والمباشرة، التي قالها مشعل عن الدولة الفلسطينية، نجد أن ما قاله جاء نتاجاً طبيعياً لتطور فكرة القبول بالدولة الفلسطينية المستقلة كما طرحتها حماس في فكرها ومبادئها، وكما مارستها في سلوكها وواقعها، وأن ما طرح لم يكن وليد اللحظة ولم يأت منسلخاً عن سياقه التاريخي وتطوره الطبيعي، والدليل أن حماس عند انطلاقتها، نظرت للدولة الفلسطينية على أنها نتاج وثمرة لعملية جهادية ونضالية مستمرة، بدأت منذ احتلال فلسطين في العام48، وستبقى حتى استرداد الحقوق المغتصبة وإقامة الدولة، ما يعني أن فكرة الدولة وفق هذا المبدأ، ليست مجرد إعلان أحادي أو ثنائي أو اعتراف دولي، أو نتيجة لاتفاق سياسي، وإنما هو نتاج فعل جهادي مستمر ومتراكم ومتصاعد، وصولاً لتحقيق هدفه بتحرير كامل فلسطين، والعودة الفعلية لكل اللاجئين.
ومع مرور الوقت وتغير الظروف الاقليمية والدولية، برزت مجموعة من المعوقات والمستجدات، التي باتت تحول دون تحقيق هذه الفكرة بالشكل الذي طرحته حماس، ونشأت لديها أفكار جديدة ومتعددة، كان أهمها، فكرة الهدنة مع الاحتلال والقبول بالحل المرحلي. وبدأت حماس تفكر مليا، بمدى قدرتها على التوفيق بين ما التزمت به أمام جمهورها ومؤيديها، وما أوردته في مواثيقها وأدبياتها وبياناتها من قضية الصراع مع المحتل، وبين تعاطيها مع المستجدات، وطروحات الهدنة والحل المرحلي، إضافة إلى التفكير بمدى قدرتها على تخطي الصعوبات والمعوقات الجمة التي وقفت في وجهها، سواء كان وصفها "بالإرهاب" ومحاربتها، أو انطلاق المسيرة السلمية في المنطقة، وتوقيع اتفاق إعلان المبادئ "أوسلو" الذي أدى لقيام أول كيان فلسطيني في الضفة وغزة.
وفي تلك المرحلة وجدت حماس، انه حتى لو تمكنت من التوفيق بين طرحها المبدئي والطرح المرحلي، إلا أن التعقيد المتعلق بكيفية تحقيق الحل المرحلي سيبقى قائما، فهل سيكون من خلال المقاومة؟ أم من خلال التفاوض؟ أم من خلال مؤسسات المجتمع الدولي والشرعية الدولية؟ كل هذه المعوقات والأسئلة، دفعت بحماس إلى محاولة إيجاد صيغة توفيقية، تستطيع من خلالها التعاطي مع الأوضاع الفلسطينية والإقليمية والدولية الجديدة، والخروج بموقف مقبول من الحل المرحلي الذي يهدف لإقامة الدولة في حدود أراضي العام67، دون تخليها عن برامجها وأيدلوجيتها، أو التناقض مع ما ورد في مواثيقها وأدبياتها.
ولهذا كان لا بد من وجود رؤية واضحة ومحددة لدى حماس بخصوص هذا الموضوع الشائك، وقد بدأت هذه الرؤية الجديدة تتبلور بالفعل لدى حماس شيئاً فشيئاً، منذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، وعبرت عنها تصريحات كل من الشهيد أحمد ياسين وموسى أبو مرزوق ومحمد نزال، ثم تصريحات أسامة حمدان ومشعل بعد ذلك، وقد كان مضمون تصريحات الجميع متقارباً جداً.
وعليه فقد تمكنت حماس، أن تخطو الخطوة الأولى نحو التعاطي مع الواقع الجديد، وأن تضع محددات الدولة التي ترتضيها، وأن تعرفها على نحو دقيق، وهو ما اتفق عليه وطنياً في وثيقة الوفاق الوطني، التي حسمت الموقف من الدولة الفلسطينية والحل المرحلي، وعكست رؤية حماس من هاتين القضيتين.
ووفق هذا التطور الذي تتبعناه والاستعراض التاريخي لموقف حماس من الدولة الفلسطينية، نجد أن الموقف الأخير من الدولة -والتي أعاد مشعل التذكير بمعالمها في خطابه- كان منطلقاً من قاعدة أن مرحلة إقامة الدولة وتحقيق الاستقلال الوطني، يحتاج لجهود مضنية وكبيرة، ويتطلب تهيئة الشعب الفلسطيني وإعداده لخوض صراع طويل ومرير، وهذا لن يتم إلا بعد ترسيخ الوحدة الحقيقية، وأن يكون الكل الفلسطيني موحداً ومتفقاً على الآليات والأدوات الموصلة للهدف، ولهذا منح مشعل فرصة جديدة لعملية السلام ولكن بعد التوافق الوطني عليها، وركز على المقاومة بكل أشكالها، وشدد على أن ينضوي الجميع تحت قيادة منتَخبة أو على الأقل متوافق عليها وطنياً، وهذا بدوره يستدعي من الجميع البحث في كل نقطة للوصول إلى تفاهم وقواسم وطنية مشتركة ومقبولة وغير متعارضة بين القوى والفصائل، للخروج من حالة اختلاف البرامج، وهو ما تضمنته الدقائق التسعة من خطاب مشعل، وما بثه خلالها من رسائل للداخل الفلسطيني، وللخارج العربي والدولي الذي نحتاج دعمه لنحقق هدفنا في التحرر والاستقلال.
فكان مشعل في خطابه منسجماً مع ذاته ومع ما طرحه سابقاً، ومتفقاً مع تطور الفكرة في سياقها التاريخي، ومتفهماً لمتطلبات تحقيقها، وأكد أن مواقف حماس المبدئية لم تتغير ولم تتبدل، ولكنه التطور الطبيعي والإيجابي، المنطلق من معرفة أن إدارة أوراق الصراع في المنطقة ليست بيد حماس وحدها، بل وليست بيد الفلسطينيين والعرب وحدهم.