غزة-محمد بلّور-الرسالة نت
أول مرة أشمّ رائحة الموت عن قرب ! , في منزل "أبو سعيّد" الحدودي يدلل القتل نفسه بألوان زاهية فيأتي تارة في الصيف وتارة في الربيع.
قبل أقل من سنة اختطفت قذائف الاحتلال نعمة من أطفالها وأصابت بقية سكان المنزل بجراح .
وكانت قوات الاحتلال قصفت الشهر الماضي المنزل بأكثر من 4 قذائف مدفعية ما أدى لتدمير جزء كبير من المنزل وإصابة عدد من الأطفال والسيدات .
على بعد 200 متر من الحدود يتحدى منزل آل أبو سعيد جغرافيا المكان, يقف وحيدا من غير جيران لجهاته الأربع.
وتمكنت "الرسالة نت" من الوصول للمنزل رغم موقعه الخطر حيث دأبت القوات الخاصة وآليات الاحتلال على التمركز بجوار المنزل .
يداعب الهواء سنابل القمح الذهبية من حوله بينما تنشغل طيوره الداجنة بالتقاط الحبوب على مرأى من مواقع الاحتلال .
قذائف المدفعية
يحافظ المنزل على هدوئه المريب بارزا بين أشجار الزيتون العتيقة فيما يعلو صوت مولد كهربي في فضاء المكان .
يسكن جابر أبو سعيد وولديه ناصر ومحمد في ثلاثة مساكن متلاصقة تتباين في المسافة وتتفق في الخطر المحدق الذي يهددها.
في تلك الليلة انتهى ناصر من تعليم أطفاله دروسهم ودعاهم للنوم في الحجرة المجاورة ثم مدّ جسده المنهك كي يستريح.
في الطابق السفلي تجمعت سيدات المنزل وبعض أقاربه حول جهاز التلفاز وموقد النار وتبادلن الأحاديث بينما انشغل محمد شقيق ناصر في بيته المجاور.
صوّبت دبابة إسرائيلية فوهتها نحو منزل آل أبو سعيد وقصفته بقذيفة ثقيلة دون سابق إنذار .
انتشر الرّعب في أرجاء المنزل فعهدهم مع قصف المنزل لم يتجاوز السنة حين استشهدت يومها زوجة ناصر وأصيب سكان البيت .
عاد شريط الذكريات في رأس ناصر دفعة واحدة تنبّه من هول الصدمة وعدى باتجاه أطفاله فوجدهم تحت الركام .
وقال ناصر إن سقف شقته تحطم ونوافذها طارت من مكانها بينما سقطت الحجارة فوقه ووجد أطفاله تحت الركام مصابين بجراح .
وأضاف :"صدمني القصف الأول ثم رأيت كتلة ملتهبة في الهواء مندفعة نحوي فإذا بها قذيفة ثانية وبدأ الأطفال ميساء 5 سنوات وبهاء 9 سنوات يصرخون سمعتهم ولم أرهم من كثافة الدخان ثم قصفونا بقذيفة ثالثة ورابعة" .
شرعت ميساء 5 سنوات في نوبة بكاء وصراخ على والدها بينما بحث هو عن هاتفه النقال ليضيء المكان.
سيدات البيت
في الأسفل تحولت جلسة السمر التي بدأتها سيدات المنزل في ديوان البيت المصنوع من الصفيح إلى حكاية ألم نزفن فيها الدماء.
وقالت أسمهان زوجة ناصر إن إحدى القذائف انفجرت أمام مدخل حجرة الصفيح بينما انتشرت الشظايا في المكان واخترقت جهاز التلفاز وسقطت في موقد النار.
وأضافت :"بعد القصف انقطع التيار الكهربي وبدأت أسمع سناء تتألم فقد أصيبت بشظية في قدمها أما علاء 11 سنوات فأصابته شظايا في رقبته وبطنه" .
يقف إلى جوار أسمهان كل من علاء وفي يده صور الأشعة وشقيقته ميساء يستمعون لرواية زوجة أبيهم .
وقال علاء :"لا أذهب للمدرسة منذ قصفوا البيت فقد احترقت كل كتبي ودفاتري وملابسي ولازلت أتعالج من الشظايا".
توالى القصف المدفعي فهربت النساء للاحتماء في جهة معاكسة للقصف وبعد دقائق جاء صوت ناصر من الشقة العلوية يحذرهم من الظهور مؤكدا أن أطفاله بحوزته مصابين.
مرت ساعة ثقيلة على سكان البيت اجروا فيها عشرات الاتصالات على الصليب الأحمر والإسعاف بينما منعت قوات الاحتلال وصول عربات الإسعاف لإنقاذهم .
ممنوع الظهور
منذ ان استشهدت زوجة ناصر الصيف الماضي اتفق السيد جابر أبو سعيّد وأولاده ونساؤهم وأطفالهم ألا يتحركوا من أماكنهم إن تعرض البيت للقصف .
الاتفاق جاء خشية تكرار مأساة الصيف الذي استشهدت فيه نعمة وهي تحاول الوصول لطفلها وسط القصف.
وتجولت "الرسالة نت" في أرجاء المكان للاضطلاع على حجم الدمار الذي أصاب البيت من القصف المدفعي حيث نجا سكانه بأعجوبة .
ولازالت السيدة سناء أبو سعيد تعاني من شظايا أصابتها في قدمها من ليلة القصف تحول دون سيرها بحريّة .
وقالت للرسالة نت :"أول قذيفة أصبت بشظاياها أنا وعلاء ابن ناصر ونحن نشاهد التلفزيون ثم انفجرت الثانية على مدخل الحجرة الجنوبي وهنا بدأ الكل يصرخ " .
انتظرت سناء مع زميلاتها الموت مع توالي القصف المدفعي وفضلت عدم الإفصاح عن إصابتها حتى لا تخيف أطفالها وتخيف الحاضرين .
أسندت ظهرها للجدار وانتظرت وصول الإسعاف وهي تستمع لصراخ زوجها محمد المصاب في الخارج وناصر شقيق زوجها الذي دعاهم لعدم التحرك.
استهداف مباشر
بينما كان يستعد محمد 29 سنة لاحتساء الشاي أملا في سهرة هادئة أمام التلفزيون سطع في وجهه وهج مزعج تلاه صوت انفجار شديد .
عن حكاية القصف قال محمد :"بعد ضوء شديد اهتز البيت كله من انفجار وطارت النوافذ وتناثرت الحجارة وتشققت الجدران ثم بدأت القذائف تسقط على البيت".
هرب محمد مسرعا وبدأ ينادي على زوجته سناء وبقية الجالسين في حجرة الصفيح أن ينتبهوا .
وتابع :"لما خرجت زحفت على الأرض مسافة تزيد عن 100 متر في الوادي المجاور فإذا بقذيفة جديدة تسقط بجواري وبعد دقائق سقطت أخرى أمامي فشعرت بدم حار يسيل من وجهي وبقيت ممدد على الأرض".
شعر محمد بتحليق مكثف لطائرة استطلاع حامت فوقه تماما لكنه بقي ممددا في حالة سيئة لأكثر من ساعة حتى وصلت سيارات الإسعاف.
اتصل جنود الاحتلال بالصليب الأحمر وأخبروهم أن هناك مصاب ممدد على بعد 100 متر غرب المنزل.
وبعد طول انتظار وعشرات المكالمات الهاتفية مع الصليب الأحمر والمؤسسات الإنسانية وصلت عربات الإسعاف للمكان .
قام المسعفون بإنقاذ محمد وهو مغمى عليه وقد أصيب بجرح غائر في جبهته لازال يتعالج منه حتى اليوم .
ونقل المسعفون طفلين من شقة ناصر العلوية وهم ميساء وبهاء وقد أصيبوا بخدوش بسبب انهيار الركام أما سناء زوجة محمد وعلاء 11 سنة فانتشلوهم وهم مصابين بشظايا من حجرة الصفيح .
هاجرت عائلة جابر أبو سعيد كاملة إلى منزل ابنه الكبير ناهض الواقع على بعد 800 متر إلى الغرب من منازلهم .
خيمة العقارب
قبل 4 شهور زارت وكالة الغوث منزل ناصر وأسرته وأخبرته أن منزله غير آمن ودعته لاستئجار منزل آخر
عن ذلك أضاف ناصر :"استأجرت 6 شهور منزل قريب من المقبرة فأصبح الأطفال يتركون البيت كل يوم ويذهبون للجلوس بجوار قبر أمهم فلم أتحمل ذلك !" .
ترك ناصر منزله المستأجر ونصب خيمة في الطريق المؤدية لمنزله المقصوف ليبعد أطفاله قليلا عن المقبرة وذكريات أمهم الشهيد.
وتابع :"سكنت في هذه الخيمة-يشير بيده-لكن الثعابين والعقارب تلاحقني ولا أستطيع العيش فيها" .
وكان ناصر قد عاد للسكن بجوار والده وشقيقه محمد في المنزل الحدودي لكن القصف الأخير أحدث دمارا هائلا في البيت وأجبرهم على تركه .
وتفرّق سكان البيت بعد أن هجروا شققهم السكنية ولم يبق لهم في المنزل القديم سوى ذكريات يطلّون على بقاياها بين حين وآخر متحدين القذائف المتوقع سقوطها في أي لحظة .