م. محمد محمود العكشية
دائرة التوعية المرورية
سألوها لم ألقيت الورقة على أرض المدرسة وقد كنت من قبل في حصة سلوكية أخبرت فيها أترابك بأن المدرسة بيتٌ ثانٍ لا يقل سمواً وارتقاءً في مدارج المحبة عن البيت الأول!! سألوه لم قطعت الإشارة الحمراء أو اقتحمت الطريق بعكس اتجاه السير.. وقد سُمِعْتَ يوماً تتمتم شاتماً شاباً طائشاً فعل ذلك.. وتمنيت لو أنك قُلِّدتَ منصب الأمارة وقيل لك "إما أن تُعذِّبَ أو تتخذ فيهم حُسنا".. فستقول حينها بل أعذب وأعذب حتى لا يبقى في هذه البلاد مخالفاً عنيدا!! سألوه لم تتصفح وجوه المارة في الطريق بنهم وبلا خجلٍ وتطيل النظر في هذا وتلك وذلك حتى لكأنك لا شغل لك غير وجوه الناس ودقائق تفاصيلها وعجائب خلق الله فيها!! سألوه وسألوها وسألوه.. فلم يجب أحد منهم إلا بضحكة استهتار.. وكأنهم قالوا: "عدَّيها هالمرة".
يُعرِّفون الثقافة بأنها مجموع القيم التي يؤمن بها المجتمع ويمارسها وراثةً عن أسلافه، يحيا بعضها ويموت الآخر في دورات الزمان.. فكأن الزمان حربٌ ذات صهيل ونفير، وتقاليد الشعوب وثقافاتها جندٌ أولو بأسٍ شديدٍ يصولون ويجولون فيسقط بعضهم ويواصل الضراب آخرون.
فهل ثقافة "عديها هالمرة" قيمة أصيلة في نفوسنا، أو جندي لا يموت من جنود القيم؟ مع الأسف.. إن الحقائق تشير إلى ذلك بقوة.
تجد القانون موشحاً حلو الأوزان محبوك النظم على لسان كل شخص، لكنه يصبح جداراً قصير القامة سهل التسلق حينما يعترض حرية نفس الشخص الذي يتغنى به ويتحسر على ضياعه في الجلسات العامة والزيارات العائلية وأحاديث السمر.
ولعله صائباً قولنا إنه لا يجد لذة التحضر والرقي إلا من حرم نفسه من حرية ما.. احتراماً للقانون.. بمحض إرادته لا بخوف من عين الرقابة السلطوية.
يقول علماء الاجتماع في تفسير نظرية "العقد الاجتماعي" تفسيراً مبسطاً سهلاً: إن الفرد منح السلطة جزءاً من حريته لتمنحه حماية وتطبيقاً عادلاً للقانون. فهل ندرك أننا لسنا في حِلٍّ مطلق من أمرنا، نفعل ما نشاء وكيف نشاء بلا حساب؟ أم أن على السلطة أن تطبق العقد التخيلي المبرم بينها وبين شعبها بالقوة دوماً؟ أم أن الشعب يريد فض العقد ويفضل حياة المشاع فينحدر بإنسانيته انحداراً مدوياً "كجلمود صخرٍ حطه السيل من علٍ"؟
ألا إن يوماً نطبق فيه تعاليم القانون ومبادئ الأخلاق بمحض إرادتنا، لا بمحض الخوف، هو يومٌ سنعتلي فيه أولى درجات التحرر! وذاك قبسٌ مقتبسٌ من سنن الشعوب وحكايات الثورات التغييرية التي عصفت بمعظم الشعوب الناهضة.
يقولون إن الجبل كومةٌ هائلة من الحصى المتراكمة، وإن الصخرة الصماء قد تفلقها قطرات من الماء، وقد قيل: لا تحقرن صغيراً في مخاصمةٍ.. إن البعوضة تدمي مقلة الأسدِ!
فإنك ترى طفلاً يستهتر بأنظمة الأخلاق وقوانين السلوك، سواءً السلوك المروري أو العام، ولا يجد رادعاً قوياً من المجتمع بيتاً ومدرسةً.. فينشأ وقد ملأت عليه ثقافة الاستهتار جنبات نفسه فلا يكاد يُنبَّهُ إلى القيم والأخلاق إلا أشاح باهتمامه بعيداً بعيداً.. فإنما ذلك آخر ما قد يكون مهماً!!
ينشأ كذلك حتى يضحي ذا مكانةٍ مرموقة في قومه ورأيٍ مسموعٍ وقرارٍ مطاع، حتى إذا كبر شأنه وسنه؛ كبر استهتاره معه واستفحل خطره.. فإن كان استهتر بدحرجة العلب الفارغة خلال عودته من المدرسة طفلاً.. فإنه اليوم يستهتر بدحرجة الوطن على طرق المسئولية شاباً!! وإن كان استهتر بالسير بسيارته على الطرق ضارباً بعرض الحائط قوانين السير شاباً.. فإنه اليوم يستهتر بكل مقدَّسٍ ضارباً بعرض الحائط لوائح الدستور كهلاً حاكماً!! وإن كان ضيع ضوابط السلوك كهلاً.. فإنه اليوم يستهتر بكل قيم المجتمع شيخاً ومربياً!
فإنما هو زرعٌ لو اعتراه اعوجاجٌ في صغره كبر اعوجاجه معه حتى يكون انحناءً بشعاً ثقيلاً يميل بجذعه نحو الأرض حتى يكسره كسراً أو يؤذي به مجتمعه ما عاش فيه.