قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: [22] رحلة الحج دروس وعبر

أ. يوسف علي فرحات

 

 

نواصل في هذه الحلقة الحديث عن دروس رحلة الحج والتي منها :

 ( إن رحلة الحج تتجلى فيها العبودية التامة لله سبحانه وتعالى وذلك من خلال أداء الإنسان لكثير من الأعمال دون أن يُفهم لها معنى أو يُدرك لها مغزى ودون أن يتردد في ذلك أو يسأل عن الأسباب كالرمي ، وتقبيل الحجر … وغيرها فإنه يقوم بها طاعة لله تعالى ، فهذا عمر رضي الله عنه يقبل الحجر ويقول : " والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " .

 ( إن الحج فيه إعلان بهدم كيان الجاهلية من أساسه ، فقد نقَّى الإسلام الحج من كل شوائب الجاهلية و أرجاسها وأبطل حج وطواف المشركين ، حيث كانوا يطوفون بالبيت عرايا وكانوا يقولون : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هو لك تملكه رما ملك " جاء الإسلام وأبطل ذلك في الحجة التي حجها أبو بكر في العام التاسع وأمره أن يطوف على الحجيج بمنى وأن يخبرهم : ألا يطوف بعد هذا العام بالبيت مشرك أو عريان ، وكان المشركون في الجاهلية من قريش يرون أن لهم ميزة خاصة فكان الناس يفيضون من عرفات وقريش تفيض من مزدلفة ، فجاء الإسلام فساوى بين الناس في أداء الشعائر فقال تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199]

( كما لا ننسى أن رحلة الحج صورة من صور الجهاد بل هو أفضل الجهاد كما في حديث البخاري( لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ ) فالحاج يخرج بنفسه وماله ويفارق الأهل والأوطان ويتعرض للنصب والجوع ويكابد الظمأ والزحام مثله في ذلك مثل المجاهد ولذا لا نعجب إذا رأينا أن السور الخمس التي ذكرت الحج ذكر فيها القتال ، والحج في هذه الأيام وإن كانت قد ذُللت فيه كثير من الصعاب ، حيث إن الإنسان بإمكانه أن يكون في جُدة بعد ساعتين إلا أنه يبقى قطعة من العذاب ولذلك عندما سئل الإمام أبو المعالي الجويني "إمام الحرمين" لمَ كان السفر قطعة من العذاب ؟ فأجاب على الفور لأن فيه فرقة الأحباب ، الحج كان في الماضي قبل ثورة المواصلات كان يكلف كثيراً ، حيث كان الحجاج يقطعون المسافات الطويلة يسيرون بالشهور حتى يصلوا بلاد  الله الحرام ، وفي هذا يُروى أن بعض العلماء كان يطوف بالكعبة فسمع رجل ينشد ويقول :

زُر من تُحب وإن شَطَّت بك الدارُ      وحال من دونه حُجبٌ وأستار

لا يَمنعَّنك بُعد عن زيارتــــه     إن المُحبَ لمن يهـواه زوار

فعرف أنه جاء من مكان بعيد فقال من أي البلاد أتيت قال : من كذا وكذا من الصين البعيد ، فقال : ومتى خرجت ؟ قال : أترى رأسي ولحيتي الآن ؟ قال : نعم أراها بيضاء ليس فيها شعرة سوداء ، قال : خرجت من بلدي وليس فيها شعرة بيضاء.

( لقد وصف الله سبحانه وتعالى بيته بقوله ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )[آل عمران: من الآية97] وهكذا ما إن تطأ قدمُ الإنسان البلد الحرام حتى يشعر بالأمن ، هذه الصفة لازمت البيت الحرام حتى في الجاهلية … كان الرجل إذا قتل رجلاً لجأ إلى البيت الحرام ليحتمي به ، ففي البيت الحرام لا يأخذ منه أحد ثأراً حتى ولو كان إبن القتيل بل يظل بالقاتل يتبعه إلى أن يخرج من البيت الحرام أو من البلد الحرام وحينئذٍ يمكن أن يدرك ثأره وهكذا " ومن دخله كان آمناً " هذا الأمن يشمل كل الكائنات حتى الطيور في أوكارها فلا تهيج حمامة في وكرها ولا طير في وكره بل إن النبات يجد أمنه فلا يقطع والشجر لا يقص ، وهكذا يشمل الأمان الذي كتبه الله لهذا البيت كل المخلوقات من إنسان ونبات وحيوان أفبعد ذلك يمكن أن يماري الناس في قِبلة المسلمين ..؟ ! إن قبلة المسلمين هي الأمان فهم عندما يصلون لا يتوجهون إلى حجارة ولكنهم يتوجهون إلى رمز الأمان والسلام ، فما أحوج البشرية في هذا العصر وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية والنزاعات الوحشية إلى أن تتعلم من الحج كيف يكون السلام ؟

( وما أحوج أمتنا في هذه الأيام أن تتعلم من رحلة الحج كيف يكون النظام والانضباط وصحوة الضمير والرقابة الداخلية ، فقد فرض الله سبحانه وتعالى على كل حاج حالة من الانضباط لا يجوز له فيها الرفث والفسوق والجدال إلا أن هذا الحرمان المشروع محبب لكل حاج ولذا فهو عندما يخالف يكون راضياً عن العقوبات التي توقع عليه ، بل يكون حريصاً على أن ينفذ العقوبة ويدفع الغرامة ، في نظم الناس لو سجلت غرامة بحق إنسان فانه يحاول أن يتفلت منها بشتى السبل لكنه لو فعل فعلاً في الحج وترتب عليه أن ما يساوي 1000 دولار فإنه يحرص على أن يفعل وهذا في منتهى التحكم ومنتهى الانضباط ، والغريب أنه لا توجد سلطة تنفذ هذا النظام ولكن الذي ينفذ هو استشعار رقابة الله سبحانه وتعالى .

    ( عندما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت توجه لله سبحانه وتعالى بالدعاء (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَة)[البقرة: من الآية128] وهكذا نرى إبراهيم عليه السلام  يدعو ربه دعاءً هو التاريخ كله … وهو الحضارة كلها … إنه لم يدعو دعاءً آنياً كما يفعل الناس ، فبعض الناس يتوجهون إلى الله تبارك وتعالى يتوجهون إليه في حياتهم الشخصية الآنية اللهم ارزقني … اللهم استرني … اللهم افتح عليَّ … اللهم يسر الأمر لي ولأولادي وذريتي …. إلى آخره . فما أحوج الأمة إلى مثل هذه الأدعية الحضارية ، ويا ليت  الحجيج أن يتذكروا في هذه الرحلة هموم المسلمين ، أن يتذكروا حالة المسلمين من الضعف والهوان والذلة والتمزق ، أن يتوجهوا بالدعاء أن يرفع العذاب عن هذه الأمة وأن يلم شملها  وأن يجمعها على قائد يُصحح لها المسار ويرفع عنها العار .

(    إن الحج يزود صاحبه بشحنات روحية إيمانية ولا سيما إذا كان هذا الحج مبروراً .

 والحج المبرور له مقومات وشروط وأول هذه الشروط : إخلاص النية لله سبحانه وتعالى وثاني هذه الشروط أن يكون هذا الحج من مال حلال وفي الخبر :

      ولله در الشاعر إذ يقول :

              إذا حججت بمال أصله دنس                   فما حججت ولكن حجت الإبل

ومن هذه الشروط أن يسلم حجه من الرفث والفسوق والجدال ، وفي الحديث المتفق عليه(مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " .

وفي الحديث المتفق عليه أيضاً ( الْحَجَّةُ الْمَبْرُورَةُ لَيْسَ لَهَا ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ).         

 

 

البث المباشر