كان القرار متوقعا، لكنه صدر في توقيت أعطاه معناه السياسي البليغ. لم يكن مجــرد تصرف إيجابي عند الحدود، بل يتصل بمعنى الوجود المصري ذاته، ويعيد النجوم إلى قرب مداراتها، ويستعيد صورة مصر كثقل داعــــم حاسم لقضية الشعب الفلسطيني، وقد كانت فلسطين ـ دائما ـ قضية وطنية مصرية.
المقصود ـ كما تعرف ـ قرار المجلس العسكري الحاكم في مصر بفتح معبر رفح، وقد سبق للخارجية المصرية بعد الثورة أن أشارت، وأعلنت نيتها في هذا الاتجاه، وفي سياق مصالحة عباس وحماس، التي دفعت إليها السياسة المصرية، وأغضبت إسرائيل، وأثارت قلق واشنطن، وتحركت الضغوط ظاهرة في العلن، وثقيلة في الكواليس، وبقصد الترهيب لصانع القرار المصري، وإلى حد توجيه تحذيرات قاطعة للقاهرة في مؤتمر ’الإيباك’ الأخير، الذي شارك في أعماله بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وباراك أوباما سيد البيت الأبيض، وتحول إلى ساحة لإبداء المخاوف من التحولات الجديدة في السياسة المصرية، ووصف الاتجاه إلى معبر رفح بأنه انتهاك لمعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية (!).
وفي أجواء الضغط المحموم، صدر قرار مصر بفتح معبر رفح، وبصورة دائمة، وبتيسيرات سخية، تلغي كل عنت إجرائي وارد في حركة الفلسطينيين من خلال المعبر، فقد ألغيت الحاجة لتأشيرات دخول في حالة الفلسطينيات من كل الأعمار، وسقط شرط وجود التأشيرة للفلسطينيين تحت سن 18 سنة، وفوق 40 سنة، وشملت التيسيرات نفسها طلبة العلم الفلسطينيين في الجامعات المصرية، إضافة للمرضى الراغبين في تلقي العلاج، والمحصلة : أن معبر رفح صار مفتوحا بالمعنى الكامل للكلمة، وبلا قيود تذكر، وبما يعني أن مصر الجديدة اتخذت قرارها بفتح شريان الحياة الرئيسي للفلسطينيين المحاصرين، وإسقاط خطيئة المشاركة في فرض حصار غزة.
القرار المصري الجديد يعكس تحولا جوهريا ملموسا، واستعادة لأولوية المصالح المصرية الوطنية، وتأكيد الاستقلالية الظاهرة في اتخاذ القرار، وبعيدا عن اعتبارات النظام المخلوع التي سقطت معه، وكانت تعطي الأولوية لرغبات إسرائيل، وتغلق معبر رفح عمليا، وتزيد من تعقيد الإجراءات، وبهدف تشديد الحصار على الفلسطينيين، والمشاركة النشيطة في المجهود السياسي والحربي الإسرائيلي الهادف لخنق الفلسطينيين، والضغط على حركة حماس بالذات، وكان الرئيس المخلوع مبارك يؤدي دوره الآثم بجدية بالغة، ويمزج مصالح عائلته مع مصالح إسرائيل، فقد كان المخلوع يحكم طبقا لقاعدة ذهبية مفهومة، كان يخدم إسرائيل طلبا لرضا الباب العالي في واشنطن، وبهدف تجديد أوراق الاعتماد وتأشيرات الإقامة في قصر الحكم، وبالتمديد لرئاسته، وتوريثها لنجله من بعده.
وكما كان وجود مبارك في الحكم عارا على مصر، فكذلك كانت سياسته الخادمة للإسرائيليين بالذات، وقد سقطت معادلة العار كلها مع الثورة المصرية الأخيرة، التي بدت كدراما هائلة، ولكن بلا قيادة مطابقة، وبما جعلها تستعين بصديق في صورة المجلس العسكري، الذي يمثل قيادة الجيش المصري.
وأضاف لأدواره دور السلطة المؤقتة في المرحلة الانتقالية، وقد كان ذهاب مبارك شخصيا هزيمة مباشرة لإسرائيل، فالرجل كان ’أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل’ بتعبير الجنرال بنيامين بن أليعازر، وأهم رجل في حياة إسرائيل بعد المؤسس بن غوريون، على حد تعبير الرئيس الإسرائيلي الحالي شيمعون بيريز. وبدت إسرائيل مصدومة بما جرى، وراغبة في منعه، ومارست ضغوطا مكثفة على رعاتها في واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى، وتورطت في التفكير بإجراء عسكري لمنع سقوط مبارك.
وكادت خطة غزو أمريكي ـ إسرائيلي لمصر تدخل حيز التنفيذ، لولا أن قيادة الجيش المصري سبقت إلى التصرف، وخلقت واقعا جديدا بإجبار مبارك على التنحي. سبق سيف الجيش المصري إلى تصرف سياسي حاسم، وفي أجواء ثقة وطنية مصرية تقليدية بالجيش، وأصبح المجلس العسكري صاحب القرار، وبدت رغبته في الممانعة ظاهرة منذ الأيام الأولى، فقد مارست واشنطن وتل أبيب ضغوطا مكثفة للتأثير على قراره، ودفعه إلى رفض التصريح لسفن حربية إيرانية بالمرور عبر قناة السويس، لكن العكس هو ما حدث، وجرى السماح بمرور السفن الإيرانية، كان ذلك نذير شؤم بالنسبة لإسرائيل، ومثار امتعاض بالنسبة لواشنطن، وكان الشعور في محله، فقد بدا التصرف المصري الجديد إشارة لسياسة جديدة، وجرى اختيار نبيل العربي وزيرا لخارجية مصر، وهو دبلوماسي مرموق، وجرى اختياره في ما بعد، وبالإجماع، أمينا عاما لجامعة الدول العربية خلفا لعمرو موسى، وينتمي العربي إلى التيار الوطني الأساسي في مدرسة الدبلوماسية المصرية، ويمثل النقيض الكامل لأحمد أبو الغيط وزير خارجية مبارك الأخير، وكان لاختيار العربي دلالته الأبعد من شخصه، فقد مشت السياسة المصرية في مسرى مختلف، طلقت بالثلاثة فكرة خدمة إسرائيل، صحيح أنها لم تنتقل بعد إلى فكرة العداء الواجب الحازم لإسرائيل.
وأعلنت التزامها بمعاهدة السلام عموما، لكنها راحت تقلص عمليا من دوائر التعاون مع إسرائيل، وصعدت لهجتها ضد العدوانية الإسرائيلية، وحذرت تل أبيب من شن هجوم حربي واسع باتجاه غزة، ثم راحت تعمل بدأب على ملف المصالحة الفلسطينية، وبنت علاقات تقارب مستجدة مع حركة حماس، ساعدت على إتمام عملية توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية، وبدأت في صياغة توازن جديد، يعرب عن الاستعداد لمد الصلات مع إيران، ويقلص الصلات مع إسرائيل، ويبقي على الحد اللازم من صلات التعاون مع معسكر دول الخليج تحت القيادة السعودية، هذا التوازن الجديد جاء لغير مصلحة إسرائيل بالطبع، التي تعودت على وضع القرار المصري في جيبها، وتصورت ـ ومعها واشنطن ـ أن للثقل السعودي دورا حاسما في القاهرة، وبدت القصة كلها مرتبطة بتفاعلات فوارة في الداخل المصري، تعلق أغلبها بمصير مبارك بعد خلعه، وبدت يقظة الشعب المصري كقوة حسم، وساعدت مليونيات ميدان التحرير على حسم تردد جنرالات المجلس العسكري، إلى أن تقررت إحالة مبارك ونجليه لمحكمة الجنايات، وبتهم بينها ملابسات تصدير الغاز المصري لإسرائيل. بدا التحول دراميا، سقطت معه محاذير وضغوط سعودية وإسرائيلية سعت لضمان العفو عن ’الصديق’ مبارك، وما كادت إسرائيل تفيق من أثر الصدمة، حتى عاجلتها السياسة المصرية بالضربة الأخرى، وقررت الفتح الدائم والكامل لمعبر رفح.
تذكروا هذا القرار جيدا، فلن يعود شيء بعده إلى ما كان عليه على جبهة الصدام مع إسرائيل، فها هي مصر الفلسطينية تعود الآن.