د. ابراهيم حمامي
بعد الاعتراف "الكريستالي" لأركان أوسلو بفشل نهجهم طوال 18 عام، وبعد تمسكهم بهذا النهج رغم الاقرار بفشله، يحاولون اليوم اعادة استنساخ تجربة فاشلة أخرى في محاولة منهم للضغط، الأمر الذي يفتقدوه بعد اسقاطهم كل أوراق الضغط والقوة وعلى رأسها المقاومة المشروعة، وهنا نعني ما يسمى اعلان الدولة من طرف واحد.
الغريب أن هذا الحديث جاء ابان احتفالهم بما يسمونه "عيد الاستقلال" الذي يصادف اعلان دولة آخر وهمي ورقي لا أساس له عام 1988، ويأتي من قبل مؤسسات "دولة فلسطين" التي لها رئيس و"سفارات"!
التجربة الفاشلة المقصودة هنا، هي محاولة الراحل ياسر عرفات قبل عشر سنوات أي في العام 1999 اعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، وهو الذي حاول وقتها حشد أكبر تأييد لها من خلال جولات مكوكية شملت العشرات من الدول حول العالم، وكان يومها متسلحاً بدعم كبير من الدول الآسيوية والأفريقية بل حتى الغربية فيما عُرف حينها ببيان برلين الصادر في 26/03/1999 الذي أيد موقف السلطة في اعلان الدولة لكنه تمنى عليها الانتظار ريثما تنجلي الأمور على الساحة الاسرائيلية.
فشلت التجربة حينها رغم هذا الدعم بسبب تخلي الأشقاء والأصدقاء عن دعمها، وتدخل الجيران وغيرهم لثني عرفات عن قراره، وكذلك بسبب التهديدات الصريحة والواضحة من أكثر من طرف.
كان هذا في بداية طريق أوسلو وقبل الاقرار "الكريستالي" بالفشل، وكان في ذروة قمع المقاومة من قبل السلطة الفلسطينية، وكان في مرحلة زار فيها عرفات البيت الأبيض أكثر من أي شخص آخر، وفي عهد كلينتون "المحب للسلام" كما يصفونه، وفي ظل سيطرة وهيمنة مطلقة على مفاصل القرار الفلسطيني، وتفرد لا ينازعه أحد لا في غزة "المنقلبة"، ولا رئيس وزراء ينازع الصلاحيات.
ما الذي تغير اليوم ليعيد فريق عبّاس استنساخ تلك التجربة، والتلويح مجدداً بدولة من طرف واحد؟ الشيء الوحيد الذي تغير هو أن عبّاس ومن معهم يقفون وحدهم بلا أوراق ضغط وبلا دعم يُذكر، وفي مواجهة ذات الشخوص والمواقف والتهديدات، كيف؟
· عام 1999 كان نتياهو نفسه رئيساً لوزراء حكومة الاحتلال، واتخذ ذات المواقف وهدد بأمور كثيرة منها:
- منع دخول نحو 120 ألف عامل فلسطيني يعملون في "إسرائيل".
- منع دخول نحو 40 ألف تاجر، ووكيل تجاري ورجل أعمال يدخلون كل يوم إلى "إسرائيل".
- منع إدخال بضائع فلسطينية إلى "إسرائيل".
- منع الإسرائيليين من الدخول إلى المناطق الفلسطينية التي ستعلن فيها الدولة.
- إغلاق المعابر، وفرض رقابة على المجال الجوي، وخطوات أخرى
وفي موقف مكرر بنسبة 100% مع فارق زمني عمره عشر سنوات، ذكرت الصحف العبرية ان نتنياهو ترأس حينها جلسة في ديوانه بمشاركة عدد من كبار المسؤولين تم خلالها مناقشة الطرق الممكنة للرد على اعلان اقامة الدولة الفلسطينية بما في ذلك احتمال ضم بعض المناطق في الضفة الغربية، مهدداً برد فعل شديد للغاية لدى اعلان محتمل احادي الجانب للدولة
· هيلاري كلينتون كانت حينها زوجة الرئيس الأمريكي، وهي اليوم وزيرة للخارجية الأمريكية، يومها تزعمت شخصياً حملة شرسة ضد السلطة وعرفات في الكونغرس الأمريكي لإصدار قرار يعاقب السلطة الفلسطينية إن هي أعلنت الدولة من طرف واحد، واعتبرت أن أي خطوة لإعلان الدولة الفلسطينية "خطوة غير مقبولة على الإطلاق"، وكانت العقوبات التي اقترحتها كلينتون تشمل:
- حظر تقديم أية مساعدات مالية للفلسطينيين من جانب الولايات المتحدة.
- حظر تقديم أية أموال تساهم في الاعتراف بدولة فلسطينية تعلن من جانب واحد.
- تفويض الرئيس الأمريكي في توجيه المندوب الأمريكي لدى الأمم المتحدة للاعتراض (الفيتو) على اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية تعلن من جانب واحد.
وقد اتخذ بالفعل قرار في مجلس السيوخ الأمريكي بأغلبية 98 صوتاً ومعارضة صوت واحد هو السيناتور روبرت بيرد، يعتبر أن ينبغي للرئيس الأمريكي أن يؤكد بشكل لا لبس فيه معارضة الولايات المتحدة لاعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد، وأن الولايات المتحدة لن تعترف بهذه الدولة المعلنة!
· في تلك الفترة ألف محمود عباس عنها كتاباً كاملاً أسماه "سقوط حكومة نتنياهو" من اصدار المركز الفلسطيني للدراسات الاقليمية عام 1999، يقول فيه " مازن أن نتنياهو كان يترقب ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية ازاء اعلان الدولة، وقد أعد لكل موقف تتخذه السلطة رداً سريعاً يجيره لصالح حملته الانتخابية يرفعه شعاراً يسيء فيه إليها. فاذا قام المجلس المركزي باعلان الدولة، سيقول بأن هؤلاء لا يستحقون التعامل معهم لأنهم يقومون بأعمال أحادية الجانب قبل التوصل إلى اتفاق، أما في حال تراجعت السلطة عن الاعلان عن الدولة، فسيقول بأن ذلك يعود إلى صلابة الموقف الإسرائيلي وحزمه تجاه الفلسطينيين الذين لا يفهمون الا لغة التشدد والقوة"، أي أن محمود عباس يعرف مخاطر اتخاذ خطوة لا يستطيع اتمامها، فلماذا يعيد التجربة مرة أخرى، وهو "يلاعب" ذات القوى والأشخاص، وفي موقف أضعف بكثير من موقف سلفه الذي حاول ثلاث مرات 04/05/1999، و13/09/1999 و 13/09/2000 ولم ينجح في أي منها؟
الحقيقة أن الفشل هو العنوان لكل ما تقوم به هذه المجموعة التي تعتبر أن الحياة مفاوضات، وتعتبر أن ما يلي فشل المفاوضات هو المزيد من المفاوضات، لأن لا خيار آخر أمامهم كما سبق وصرح محمود عباس نفسه، ولا تملك زمام المبادرة، ولا خطة لديها للتعامل مع الأحداث سوى تقديم المزيد من التنازلات، خاصة بعد أن سلخت نفسها عن الشعب الفلسطيني وقضيته، وفقدت كل مصداقية.
لم يعد لديهم ما يخسرونه بعد أن سقطت ورقة التوت وتعروا تماماً، وباتوا "ملطشة" لمن هب ودب، "ملطشة" يستلذ المجرم ليبرمان بها، ويوجه لهم الاهانات والادعاءات المتكررة بأنهم تآمروا وشاركوا في قتل شعبهم، دون أن يجرؤ أحد منهم على نفي ما يقول، "ملطشة" تحولت لضغط متكرر على الطرف المستعد للتنازل، "ملطشة" تستخدمها حتى الدول الكبرى في التنصل من وعودها، "ملطشة" لأنهم بالفعل كذلك، وبدلاً من الشعار البائس "الحياة مفاوضات"، عليهم رفع شعار "الفشل ملطشة".
لو تبقى ذرة واحدة بسيطة من كرامة لدى أحد منهم لأراح واستراح، ولما رأيناه بعد اليوم في أي مكان، خزياً وعاراً مما فعلوا وأجرموا، لكن هيهات هيهات، فقد استمرأوا الفشل والمهانة و"الملطشة".
لن يجرؤ عباس أو غيره أن يعلنوا دولة من أي نوع لا من طرف واحد ولا من أطراف عدة، ولن تمنح لهم دولة لا بمجلس أمن ولا بغيره، ولن يحصلوا إلا ما زرعوا الخيبة والفشل.
الحقوق لا تمنح منّة وهبة، بل تنتزع، الحقوق لا تعطى، لكنها تؤخذ غلابا، والضعيف لا يحترمه أحد، إن كان محترماً في الأساس.
فشل يتلوه فشل، واهانة تتلوها اهانات، وخنوع يتلوه اذلال، ثم يحدثونك عن دولة ورئيس وسلطة.
تباً لهم من تعساء!
ولا نامت أعين الجبناء.