تؤرق الجيوب وتفقد الثقة بالمال

العملة المزورة.. ورق ثمين وربح محرم

تجار لا يميزونها وصرافون يكتشفونها

المباحث: ليست ظاهرة ويمارسها أفراد لا شبكات

صراف: أكثرها من فئة الدولار وخبرتنا سر اكتشافها

معهد دراسات مالية: ناتجة عن الانفتاح مع حدود غزة

اقتصادي: نشاط غير مشروع يؤثر على الاقتصاد الوطني

شرعي: تدخل في إطار الغش, والشرع حرمها

قاضي: عقوبات قانونية رادعة حفاظاً على الاقتصاد

غزة - فادي الحسني-الرسالة نت

لما عرض الشاب العشريني عبد الله دراجته النارية للبيع وسط السوق، داهمه شخصان تصنعا الثقة بنفسيهما وتفقدا الدراجة طمعاً في شرائها، لكنهما لم يجادلا كثيراً في ثمن الدراجة ودفعا مبلغ (800$) على الفور وغادرا السوق مسرعين.

عاود الشاب عبد الله-الذي يمر بضائقة مادية باع على اثرها دراجته - إلى محال الصرافة ليحول المبلغ من فئة الدولار إلى الشيكل، لكنه تفاجأ هناك لما أخبره المحاسب أن ثلاث أوراق من أصل ثمانية مزورات.   

سارع الشاب المغرر به إلى مقر الشرطة للإبلاغ عن الحادثة، وهناك اتخذت الإجراءات القانونية اللازمة وقدم المواصفات المساعدة في الكشف عن هوية المزورين.

بعد وقت استدعت الشرطة الشاب عبد الله لعرض بعض المشتبه بهم عليه، وأثناء طابور عرض المشتبهين، استرجع عبد الله ذاكرته وتمكن من تحديد احد الأشخاص المتورطين في الجريمة، واخذ القانون مجراه لإرجاع حق عبد الله والتعرف على الآلية التي اتخذها المجرمون لتزوير هذه العملة الصعبة.

جريمة تزوير الأموال هذه واحدة من بين عشرات الجرائم التي لم تتمكن الجهات الرسمية إعطاء أرقام دقيقة حولها، خاصة أنها تتفاوت من منطقة لأخرى ومن حين لآخر.

ويستدعي رواج جريمة تزييف العملة الورقية في قطاع غزة، التساؤل : هل ارتقت هذه الجريمة إلى حد الظاهرة ؟ ومن يقودها.. شبكات أم أفراد؟، وما هي العملة الأكثر تعرضا للتزييف؟ وما عقوبة المتورطين فيها؟

كشف هويتهم

أكثر الفئات استهدافا من قبل مزوري العملة، هم التجار وسائقو الأجرة وصغار البائعين، لكن ابلاغ جهاز الشرطة عن هذه الجريمة والإدلاء بالإفادة يسرع بالكشف عن هوية المزورين، كما تقول الجهات المسؤولة. 

ويقول تاجر من مخيم "البريج" يدعى أبو خليل، أنه في أغلب الأحيان لا يستطيع التفريق بين العملة المزورة والأصلية وذلك لدقة الطباعة وعدم وجود فروق في الملمس والشكل، ويضيف "نستخدم الطرق التقليدية؛ ولكن دون جدوى ولا نكتشف عيب العملة المزورة إلا في البنك".

وأكد أبو خليل أن الفئتين النقديتين الأكثر تعرضا للتزييف هما (المئة شيكل والمئة دولار)، مشيرا إلى أن بعض المزورين يقحمون عددا من الأوراق النقدية المزورة وسط عدد من الأوراق النقدية الأصلية حتى لا يكشف أمرها.

وفي وقت زعم فيه  المواطن (س. ب) الذي تعرض مسبقا لعملية نصب، أن النقود المزورة يتم نسخها في العريش وتهرب إلى غزة عبر الانفاق، قالت المباحث العامة: "إن عملية إدخال العملة المزيفة إلى القطاع محدودة جداً ولا تكاد تذكر، ومعظمها يتم داخل القطاع".

وبين الحين والآخر تكشف المباحث العامة في غزة عن ضبط عمليات ترويج للعملة الورقية، آخرها كان ضبط أربعة أشخاص من مدينة رفح يروجون عملة مزيفة من فئة 100 دولار.

وأشار التحقيق مع المتهمين إلى أن المدعو (م. أ) والمقيم في الجانب المصري، حول مبلغ 4300 دولار إلى (ع. أ) لترويجها بمساعدة اثنين من المتورطين.

وفي هذا الصدد قال مصدر مطلع في المباحث العامة لـ"الرسالة" "عمليات تزوير العملة محدودة ولا ترتقي إلى الظاهرة، ويمارسها أفراد وليس شبكات، وقد يشترك فيها اثنان او ثلاثة على ابعد حد يتقاسمون الادوار فيما بينهم".

وكشف المصدر عن القاء القبض على بعض المزورين الذين طبعوا الجنيه المصري في غزة وصدروه إلى مصر عبر الأنفاق، وكذلك تورط احد الأشخاص بتزوير مبلغ عشرين ألف دولار في مصر وتحويله إلى القطاع.

واعتبر أن عملية التزوير تتم بطريقة ارتجالية، يشتري فيها المزورون طابعة ذات مواصفات معينة ويطبعون العملات الورقية وترويجها في الأسواق المحلية خصوصا في سوق السيارات وفي السوبرماركت وبين صغار الباعة المتواجدين على الطرقات.

ورق خاص

ويلفت المصدر إلى أن الورق المستخدم في طباعة العملة الورقية المزيفة هو الورق "الأبيض العادي" وليس الورق المخصص لصناعة النقود، مشيرا إلى ضبط حالتين فقط، ثبت استخدامهما لورق ذات مواصفات خاصة تقارب مواصفات ورق العملة النقدية الأصلي.

واستدرك بالقول: "الورق المستخدم في هاتين الحالتين، جعل من الصعب التفريق بين العملة المزيفة والأصلية، لدرجة ألا أحد من الصرافين أو المواطنين لاحظ الفرق، وتداولوا العملة، لولا أن البنك كشف بطلانها".  

وتفصح تقارير عن ان أشهر طرق تزوير العملات حاليا تتم باستخدام الطباعة الرقمية "الديجيتال" على الكمبيوتر. وظهرت هذه التقنية عام 1993م كأحدث أشكال الطباعة، وعلى الفور استغلها مقلدو العملة في عملهم.

وتشير التقارير إلى أن المقلد يستخدم ماسحا ضوئيا ويصور العملة الورقية عليه، ثم يدخل هذه الصورة إلى الكمبيوتر، وبعدها يستخدم برنامج معالجة ألوان للعملة المقلدة ثم يطبعها.

ولم تخف المباحث سراً حين تؤكد أن مزورين جلبوا مكابس حديدية لصك العملة المعدنية كفئة الشيكل والعشرة شواكل.

وتكشف المباحث أيضا عن قيام أحد المزورين بصك العملة المعدنية "الشيكل" في الصين، لكنها صودرت قبل أن يتم تداولها في الأسواق المحلية. وتؤكد أن معظم المزورين هم من متعاطي المخدرات الذين يضطرون تحت وطأة "الكيف" لتزوير العملة لشراء المخدرات، موضحة أن أكثر حالات تزوير العملة النقدية ضبطت في جنوب قطاع غزة.

وقت معين

وتزيد وتيرة هذه الجريمة في وقت معين، لكن ما تلبث ان تعود لوضعها الاعتيادي، ذلك حسب قائمين على "السوق السوداء" التي تصرف فيها العملات.

ويشير أحد أصحاب محال الصرافة في غزة، يدعى أبو أحمد حرز الله، إلى أنه يتردد عليهم أشخاص بين الحين والآخر يحاولون تبديل عملات مزيفة من فئة المئة دولار، بالعملة الإسرائيلية الأصلية، مؤكدا أن هذه المحاولات لا تنطلي عليهم.

ويلفت حرز الله إلى أن المزورين يضعون ورقة أو ورقتين مزورتين وسط جملة من الاوراق الأصلية حتى لا يكتشف الصرافون أمرها، نافيا أن يكون لديهم جهازاً لكشف العملات المزيفة.

ويستدرك قائلاً: "نحن لدينا خبرة تفوق عمل الجهاز في الكشف عن العملة المزورة (..) الفئة المزيفة التي يتم تداولها غالبا هي المئة دولار".

ورغم الخبرة التي يمتلكها اصحاب محال الصرافة في القطاع، إلا ان الحالات المتكررة للعملة المزيفة استدعت من معهد فلسطين للدراسات المالية والمصرفية –التابع لسلطة النقد- أن يقدم برامج متخصصة في كشف التزييف والتزوير في العمل المصرفي.

ويؤكد مسؤول المعهد في قطاع غزة يوسف المشهراوي، أن العملة المزيفة تستدعي تثقيف وتقديم برامج احترافية للبنوك والصرافين ورجال الأعمال، حتى لا تنطلي عليهم عملية تبديل الاموال المزيفة.

وقال المشهراوي لـ"الرسالة" هذه الحالات استدعت تزويد موظفي البنوك والمصارف بالأساليب العلمية والعملية للكشف عن تزوير المستندات والوثائق وإغناء مهارات الموظفين بالتعرف على العملات الصحيحة والكشف عن العملة المميزة".

واعتبر أن حالات تزوير الأموال ناتجة عن الانفتاح مع الحدود المجاورة لقطاع غزة، لافتا في الوقت نفسه إلى أن هذه العملات تعمل على "اضعاف التجار ومن ثم الاقتصاد الفلسطيني ككل" حسب تأكيده.

وهنا يصنف أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر د. معين رجب العملة المزورة، على أنها "نشاط غير مشروع" لتحقيق أرباح غير مشروعة، الأمر الذي يؤثر سلبا على حالة تداول العملة والثقة التي يجب توافرها عند التداول.

ضحايا

وقال رجب لـ"الرسالة" تزوير العملات يحدث ارتباك وقلق في السوق ويوقع ضحايا عندما يتم الكشف عن هذه العملات، فضلا عن أنه يحقق خسائر كبيرة (..) ما يضر بالاقتصاد الوطني".

ومن بين الأسباب التي تدفع لتزوير العملة-بحسب رجب- السعي للكسب السريع والمرتفع من قبل بعض الاشخاص، وسهولة عملية التزوير، إضافة إلى عدم وجود خبرة ومتابعة من الجهات المختصة.

ولان جريمة التزوير سواء كانت للأموال أو لأي نوع من انواع الحقوق، يقع في اطار الغش فإن الشريعة الإسلامية استنكرتها، واعتبرتها أنها محاولة لأكل مال الناس بالباطل.

وذكر استاذ الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية د. ماهر السوسي لـ"الرسالة" بعضا من النصوص القرآنية التي حرمت أكل مال الناس بالباطل، منها (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).

وقال السوسي: "تزوير الأموال يدخل في إطار الغش وهو محرم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا".

وأضاف "كل النصوص سواء من القرآن او السنة تؤكد أن التزوير معصية وجريمة، لكن الشرع لم يحدد لها عقوبة مقيدة وترك الامر للقضاء ليعاقب بحسب حجم الجريمة وحسب الضرر الواقع".

عقوبة

ويتدخل هنا القانون ليوضح أن عقوبة هذه الجريمة هي خمس سنوات، لكن مفهوم التزوير بالنسبة له لا ينسحب فقط على العملة المعدنية أو الاوراق المالية "البنكنوت" ، بل على الكمبيالات والشيكات ايضا.

ويقول القاضي اشرف فارس رئيس محكمة بداية غزة أن قانون العقوبات الفلسطيني لسنة 1936 يوقع عقوبات شديدة على من يرتكب جريمة تزوير "البنكنوت".

وقال فارس لـ"الرسالة" القانون يجرم من يقتني ادوات التزوير أو الاختام والقوالب او أية اداة تستخدم في التزوير ويعتبرها جناية عقوبتها القصوى خمس سنوات". وبحسب النصوص المقررة في قانون العقوبات، فإنه يعاقب كل من يهرب الأموال من الخارج إلى داخل فلسطين، ويحاكم بعقوبة تصل إلى سبع سنوات.

وأضاف فارس "هذه العقوبات رادعة وشديدة كي لا يستطيع احد الاقدام عليها وحفاظا على الاقتصاد القومي والوطني والثقة المالية بين افراد المجتمع كي لا تتزعزع ثقتهم في الاموال المتداولة بينهم".

ويجتمع قول القاضي هنا مع من سبقه، على أن تزوير العملة ليست بالظاهرة، وتظهر في المجتمع بين الفينة والاخرى، قائلا: "الحالات التي تطرح على القضاء تواجه بموقف صارم ويصدر قرار بمصادرتها ويتبع القرار لإتلافها والقضاء عليها".

لكن رأي فارس لم يتوافق مع رأي "المباحث"، حول نوعية الفئة التي ترتكب هذه الجريمة، حيث اعتبر أن مرتكبيها هم من "الشباب العاطلين عن العمل" وليس تجار مخدرات, كما قالت المباحث.

ويقول فارس: "يفعلها شباب من باب الفضول يتوفر لديهم جهاز حاسوب وماسح ضوئي، ويحاولون التزوير، لكن حين تعلم الجهات المختصة تفتش البيت وتحرر محضرا بالقضية وتقدمهم للمحاكمة".

جريمة دولية

تزوير الأموال ليست جريمة محلية فحسب، إذ أن الكثير من الدول تعاني انتشارها.

ونشر مؤخرا خبر ارتفاع الطلب على الأجهزة الخاصة بكشف تزوير العملات في العديد من الدول العربية بعد تصاعد مخاوف الكثير من المؤسسات والشركات التجارية ومعارض بيع السيارات التي تستخدم الدفع نقداً في تعاملاتها، من تزييف العملات الورقية.

وبحسب عاملين في مجال أجهزة كشف التزوير، فإن السوق تشهد إقبالاً كبيراً، وزاد الطلب بنسبة 30%.

وتشير تقارير إلى أن منطقة الشرق الأوسط تشهد ارتفاعا في نسبة السيولة واستخدام النقد بكثرة في العمليات المالية، خلافاً للدول الأوروبية وأمريكا، نظراً لاعتمادها على بطاقات الائتمان والتحويلات المصرفية.

وفي نهاية هذا التحقيق قد لا تجد "الرسالة" قولاً أبلغ مما ورد على لسان د. السوسي لتقدمه إلى أولئك الأشخاص الذين سلكوا هذا النهج الخاطئ-تحت وطأة الظروف- وهو: "الصدق والأمانة هما مفتاح النجاة، واذا فقد الانسان مصداقيته، فقد انسانيته وأصبح منبوذاً".

 

البث المباشر