محمد السعيد إدريس
يرتبط الوجود "الإسرائيلي" ارتباطاً حياتياً بالأمن "الإسرائيلي" تماماً كارتباط الروح بالجسد، إذا غابت الروح انعدم الوجود الفعلي للجسد، وإذا غاب الأمن عن الكيان الصهيوني تلاشى وجود هذا الكيان على الأقل بمفهومه العدواني التوسعي القائم على الاستيطان، ولذلك اقترن تأسيس الكيان بتوفير متطلبات أمنه التي هي شروط وجوده.
كان التأسيس الحقيقي لهذا الأمن منذ إعلان قيام الكيان أنه يعتمد على نظرية الحدود الآمنة، أي التوسع الدائم على أرض الجوار لتوفير الشروط الأفضل لأمنه، ولذلك كانت الحرب من أجل التوسع قضية محورية ضمن جهود توفير شروط بقاء الكيان ووجوده.
والأزمة الراهنة المثارة حول حدود الدولة الفلسطينية المقترحة وحدود الانسحاب إلى ما كان عليه حال الكيان يوم الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 هي أزمة الصراع حول الحدود الآمنة للكيان، فحدود الدولة الفلسطينية المقترحة هي نفسها ستكون الحدود الدائمة للكيان، ولكن تبقى هذه الحدود قادرة على الوفاء بشروط ومتطلبات الأمن "الإسرائيلي" وستظل أزمة عصية على الحل، لأن الحل المطلوب له علاقة مباشرة بوجود الكيان الصهيوني وبقائه، وأي تراجع عن الحدود الآمنة التي تريدها "إسرائيل" لا يعدّ تراجعاً عن مجرد متطلبات وشروط أمن بقدر ما هو اقتطاع من المد الزمني لبقاء ووجود "إسرائيل" نفسها، فمن في مقدوره أن يفعل ذلك؟
هذا السؤال أجاب عنه دوري جولد مستشار نتنياهو الأسبق ومندوب "إسرائيل" في الأمم المتحدة الأسبق أيضاً وأحد أبرز من لهم علاقة مباشرة بالتخطيط الاستراتيجي للأمن والسياسة الخارجية "الإسرائيلية" من خلال تحليله مضمون ومحتوى النظرية التقليدية للأمن "الإسرائيلي"، المعروفة ب"نظرية الحدود الآمنة" التي كان ييغال ألون نائب رئيس الوزراء الأسبق من ألمع منظريها.
ترتكز نظرية الحدود الآمنة تلك على اعتقاد مفاده أن "إسرائيل" لا يمكنها أن تحمي مستقبلها إلا بحدود منيعة، وأن هذه الحدود المنيعة يجب أن تكون خلف خطوط عام 1967، حيث إن الحرب التي انتصرت فيها "إسرائيل" في ذلك العام أكدت حقيقة اختلال موازين القوى وأوجه ضعف "إسرائيل" التي فُرض أن تكون "صغيرة الحجم ومحاطة بدول تفوقها مساحة وسكاناً"، وإن هذه الحقيقة تفرض ضم أجزاء كبيرة من الأراضي التي احتلتها في هذه الحرب كي تؤمن نفسه من أن يكرر التاريخ نفسه، وعدم تكرار خطر اندفاع قوات مشاة عراقية نحو حدود "إسرائيل" عبر وادي الأردن كما حدث في الحروب السابقة.
يؤكد غولد في دفاعه عن الموقف "الإسرائيلي" الرافض الانسحاب إلى حدود عام 1967 والإصرار على ضم أجزاء من وادي الأردن والضفة الغربية بحجتين، الأولى هي أن وادي الأردن حيوي ل"إسرائيل": لأن طبيعته الجغرافية كانت سبباً في تهريب السلاح واستخدامه من قبل المقاتلين المناوئين ل"إسرائيل" والثانية ضبابية مستقبل الدور الإقليمي العراقي ونظام الحكم فيه. فالعراق، كما يعتقد "الإسرائيليون"، قد ينضوي بشكل كامل تحت عباءة إيران، وقد يكون جبهة إيرانية جديدة مع "إسرائيل" إلى جانب جبهة الجنوب اللبناني، إذا أضيف إلى ذلك غموض مستقبل النظام في سوريا فإن المخاطر تتراكم الآن في مواجهة أمن "إسرائيل"، ولذلك فإن التفكير "الإسرائيلي" في الانسحاب إلى حدود عام 1967 لن يكون إلا "تفكيراً انتحارياً".
من هذا الاعتقاد ينطلق "الإسرائيليون" في إصرارهم على التمسك بحدود ما بعد الرابع من يونيو/حزيران عام 1967. وحسب تقرير حديث نشره "معهد ستراتفور الأمريكي للدراسات الاستخبارية" (31 مايو/أيار 2011) من مبادئ استراتيجية تكاد تتطابق مع فكرة "إسرائيل" الدينية التوراتية هي:
- الحرب مع العرب لن تنتهي حتى مع توقيع اتفاقيات السلام (أي سلام لن يكون نهاية للحرب "نظرية الحرب اللانهائية").
- قيام دولة فلسطينية يعني تعريض "إسرائيل" لخطر الصواريخ من مسافة قريبة تصيب تجمعات سكانية كبيرة.
- خسارة الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية.
- خسارة العمق الاستراتيجي المطلوب، وقدرة "الردع الاستباقي" على حرب العصابات مع الفصائل الفلسطينية وحزب الله.
السؤال الصعب الذي يواجه هذا الفكر الاستراتيجي التقليدي ونظرية الأمن كما وضعها بيغال ألون هو: هل احتفاظ "إسرائيل" بالحدود الراهنة يؤمن ما يحتاجه الوجود والبقاء "الإسرائيليين" من أمن؟ بوضوح أكثر: هل حدود ما بعد الرابع من يونيو/حزيران 1967 حدود آمنة ل"إسرائيل" وكافية لتأمين وجودها؟
من هنا يبدأ مأزق "الوجود الإسرائيلي" كله وليس فقط مأزق نظرية الأمن "الإسرائيلية" التقليدية.
الإجابة الأولى عن السؤال طرحها معهد ستراتفور في ختام دراسته المشار إليها بأنه حتى في حال عدم عودة "إسرائيل" إلى حدود ما قبل الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 (حدود الهدنة لعام 1949) فإنها (إسرائيل) لن تكون بمأمن من الصواريخ متوسطة المدى سواء من سوريا أو من إيران، وإذا كانت هذه الصواريخ لا تشكل تهديداً لوجود الدولة الصهيونية، فإن السلاح النووي الإيراني، في حالة وجوده، يمكن أن يحل القضية، ومن هنا تتضح أولوية التصعيد الأمريكي "الإسرائيلي" ضد القدرات النووية الإيرانية.
هذا الاستنتاج يبدو محدوداً إذا قورن بالتقرير الذي قدمه بيني غينتس رئيس الأركان "الإسرائيلي" الجديد أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست الذي أعلن فيه أن "قوس التهديدات في ظل التغييرات الجديدة في الشرق الأوسط قد اتسع كثيراً، بدءاً من السكين وحتى الأسلحة النووية" ففي رأيه، مازالت تهديدات الماضي قائمة، لكن "هناك تهديدات حديثة تتطور، تتطلب قدرة على العمل في جبهات عدة بقوة وحزم، ويجب حسمها خلال فترة قصيرة".
أبرز هذه التهديدات الجديدة هي أن هناك لاعباً مركزياً جديداً في الشرق الأوسط، اسمه الشارع السياسي.
هذا الشارع لم يفجر ثورات أسقطت نظماً كان بعضها يعد ذخراً للأمن "الإسرائيلي"، ولكنه دفع بالآلاف نحو اجتياز الحدود مع الكيان أملاً في العبور إلى فلسطين مرتين في أقل من ثلاثة أسابيع، الأولى في ذكرى النكبة والأخرى في ذكرى النكسة في تطور جديد يؤكد أن الشارع لن يكون بعد الآن في معزل عن معادلة الصراع، وأن الحرمان الطويل من هذا الدور سوف يتوارى بإسقاط النظم التي صادرت حقوق الشعوب في أن تكون طرفاً في معادلة الصراع.
هذا الشارع يأتي أيضاً عبر البحار في شكل "أساطيل حرية" هدفها سياسي - نفسي لكسر إرادة العدو على فرض الحصار على قطاع غزة، وتأتي مشاركة رموز من شعوب العالم في تلك الأساطيل معلماً لتطور جديد من شأنه إسقاط الحصون النفسية المنيعة التي وفرت للكيان الدعم المعنوي قبل المادي في العالم، والنيل من شرعيته.
هذا المتغير الجديد يمكن أن يتدعم في حالة استبدال نظم الحكم التي تتداعى، بأخرى قادرة على تجديد خيار المقاومة، عندها سوف يتأكد المأزق الوجودي الحقيقي لكيان أسس قوته على نظرية أمن فاشلة، ولعل هذا ما يفسر الهجوم الضاري على مائير داغان رئيس الموساد السابق بسبب تصريحاته التي شكك فيها بقدرة "إسرائيل" على شن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، وأبدى فيها تشاؤمه من قدرة "إسرائيل" على وقف البرنامج النووي الإيراني وتأكيده أن أي هجوم "إسرائيلي" على منشآت هذا البرنامج لن يؤدي إلى أكثر من إرجائه، في حين يمكن أن يتحول إلى حرب إقليمية ضد "إسرائيل" تشارك فيها سوريا مع إيران وحزب الله.
داغان كشف وعرّى هشاشة الردع "الإسرائيلي" القائم على قدرات زائفة بقدر زيف الأمن "الإسرائيلي" والوجود "الإسرائيلي".
صحيفة الخليج الإماراتية