قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: أردوغان إذ يُهدي انتصاره للقدس وغزة

منَحَنا رجب طيب أردوغان بعد يومِه الانتخابي الطويل فرحتين، الأولى تمثَّلت بانتصاره التاريخي لمرة ثالثة بنسبة أعلى من الأصوات (أكثر من خمسين في المائة، وتعني بحسب النظام الانتخابي التركي حوالي 60 في المائة من المقاعد)، فيما تمثَّلت الثانية في إهدائه الانتصار للقدس المحتلة والضفة الغربيَّة وغزة، وقوله في كلمته أمام مقرّ الحزب في أنقرة: "إن هذه الانتخابات هي نصرٌ للشعب التركي، وعندما تنتصر أنقرة تنتصر رام الله والقدس ودمشق"، وهو ما يعني الكثير بالنسبة إلينا بصرفِ النظر عن أيَّة تفاصيل تقلِّل من طموحاتنا، وربما طموحات أردوغان نفسه، فيما خصّ التعاطي التركي مع الشأن الفلسطيني، والعربي عمومًا.

بعد أتاتورك، لم يحصلْ زعيم تركي سوى أردوغان على قيادة البلاد منفردًا لثلاث دورات متتالية، وها هو يحصل على النسبة التي طمح إليها، والتي تمنحه فرصة كبيرة لتحقيق حلمه بتغيير الدستور، رغم حاجته إلى التحالف مع آخرين لتوفير المقاعد المتبقية لإكمال نسبة الثلثين الضروريَّة لذلك.

للتوضيح، ينصُّ النظام الانتخابي التركي على ضرورة حصول الحزب المشارك في الانتخابات على نسبة عشرة بالمائة من الأصوات كي يدخل البرلمان، وإذا لم يحدثْ ذلك تتوزع أصواته على الأحزاب الفائزة بحسب النسب التي حصلت عليها، وهذا ما يفسر حصول العدالة والتنمية على حوالي 60 بالمائة من المقاعد رغم حصوله على حوالي خمسين بالمائة من الأصوات، وهذا النظام من أروع الأنظمة الانتخابيَّة، لكنه مشكلته في الحالة التركيَّة تتمثَّل في ارتفاع نسبة الحسم، خلافًا لتطبيقه في الكيان الصهيوني حيث تقلُّ نسبة الحسم إلى واحد ونصف في المائة، بعد أن كانت سابقًا اثنين ونصف بالمائة، وفي جنوب إفريقيا مثلا لا توجد نسبة حسم، وفي العموم يعد نظام القائمة النسبية من أعدل الأنظمة الانتخابيَّة وأكثرها قدرةً على تمثيل جميع الأطياف، وهو الأقدر على صياغة حالة سياسيَّة حقيقيَّة تشرع وتراقب وتنفذ، وتمنح الفرصة لتداول فعلي على السلطة.

ليس هذا موضوعنا، لكنا نتحدث عن الانتصار الكبير الذي حقَّقَه أردوغان، والفرصة التاريخيَّة بالنسبة إليه لقيادة البلاد نحو مسار حريات حقيقية، بعيدًا عن سطوة العسكر الذين أفسدوا البلاد لعقود طويلة.

اليوم سيكون بوسع أردوغان أن يحقق بعضًا من طموحات ناخبيه، لا سيَّما الكتلة المتدينة التي تمثِّل النواة الصلبة الأكثر فاعليَّة، تلك التي تعتقد بوفائه لجذوره الإسلاميَّة، ليس في سياق تطبيق الشريعة كما يفهمها البعض، بل من أجل انسجام الدولة مع ميراثها وثقافتها الإسلاميَّة التي سعت العلمانيَّة المتطرفة إلى إقصائها خلال عقود طويلة دون جدوى، بدليل تلك القوانين المتطرفة التي تقيّد الحريات الدينيَّة.

إن اقتراب الدستور التركي اليوم أو غدًا من ميراث تركيا الثقافي والديني ليس من قبيل الأصوليَّة أو التطرف، إذ أن هذا ما يحدث في دول العالم الديمقراطي، وإلا فلماذا يسمى الحزب الحاكم في ألمانيا بالحزب الديمقراطي المسيحي، ولماذا يقال أن ثقافة أوروبا مسيحيَّة يهوديَّة، وينص على ذلك في الدساتير، ولماذا تعتبر الملكة في بريطانيا راعية للكنيسة الإنجليكانية؟!

المهمّ في القضية هي الحريَّة، حرية الشعب في اختيار ما يراه مناسبًا على جميع الأصعدة، وهذه هي الديمقراطيَّة، ولا شك أن الاستفتاءات الشعبيَّة على مختلف القضايا المهمَّة هي أعلى درجات الحرية والديمقراطيَّة كما في سويسرا على سبيل المثال.

ليس من حقنا أن نُملي على أردوغان ما ينبغي أن يفعل، لكنه يتأثر بالرأي العالم الإسلامي والتركي، وقد رأينا كيف غيّر رأيه في الملف الليبي بسبب الانتقادات العربيَّة والإسلاميَّة، كما غيّر موقفه من الوضع السوري على نحوٍ رائع تمثل في انتقاده لما سماها "فظاعات" يرتكبها النظام ضدّ شعبه.

الآن ننتظر منه مواقف متقدمة فيما يتصل بالعلاقة مع الدولة العبريَّة، وفيما يتعلق بأيَّة تطورات جديدة تشهدها الساحة الفلسطينيَّة المرشَّحة لانتفاضة جديدة بعد ثورات العرب التي نجحت والتي ستنجح بإذن الله، وها هو بإهدائه الانتصار للقدس والضفة الغربيَّة وغزة يبشرنا بشيءٍ من ذلك.

يبقى موضوع استنساخ التجربة التركيَّة عربيًّا كما يكرِّر كثيرون بحسن نيَّة أو بغير ذلك، وهو موضوع تحدثنا فيه مرارًا، ونكرِّر أن السياق مختلف إلى حدٍّ كبير، لكن إقرار نظام انتخابي على النسق التركي في هذا البلد أو ذاك بعد الثورات العربيَّة، قد يوفِّر فرصة لتكرار التجربة بشكل من الأشكال، من دون التورط في سياسات يرفضها الشارع كما هو حال العلاقة مع الدولة العبريَّة والتبعيَّة للغرب، مع أن الشراكة مع القوى الوطنيَّة الأخرى هي الأفضل خلال هذه المرحلة بعد الثورات العربيَّة من أجل إنقاذ الأوضاع المتدهورة، مع التذكير بأن جهاتٍ كثيرةً في الداخل والخارج ستظلُّ تعمل من أجل استبعاد هذا الاحتمال بكل ما أُوتيت من قوَّة

 

البث المباشر