بقلم: رشا فرحات
في ذلك اليوم، كانت أفواه أخوتي المفتوحة على جوع سنوات طوال، ترجوني بصمت، عيونهم الجاحظة، تنظر إلى عيناي، اسقط نظري أرضاً فتطالعني فتحات حذائي الممزقة، وأرضية بيت مزقتها روائح العوّز، وثوب أمي المزركش بذات الزركشات الرمادية، حيث تعلن قباحة الثوب رداءة مصنعيته، وخيوطه التي أعلنت ذوبانها، عيونهم التي تنتظر قراري، وتتفرج على يداي اللتان بدأتا تمتدان إلى ثوب المدرسة القديم، فتخلعانه بتردد مرتجف، وترميانه أرضاً في قرار أول وأخير، فتعلو ضحكاتهم وجوههم الصفراء الجائعة، ويبدءون بخط سطور حياتهم مع نهاية أخر سطر في حياتي.
أدخل إلى بيت تملأ الشرفات جدرانه البيضاء، ذو سقف عال، يطول السماء، وسلم مرتفع، يقف على عتباته أناس كثر متشحون بسواد جميل، يبتسمون كما لو كانوا من الجنة، فرحت بهم، شعرت بالألفة، فهناك أنفاس أخرى في هذا القصر الموحش الكبير، سرت بضع خطوات خفيفة، بينما لم ألحظ قدماك اللتان تسيران بطيئتان خلفي، بينما يدك تقبض على عكازك الخشبي المطلي بلون الذهب، قالوا لي فيما بعد أنه كان من الذهب.
كان ثوبي الملون بتلك الورود الحمراء، يهدئ من روع الجزع المخبأ في صدري، يدخل البهجة إلى قلبي، يواسي نبضات خائفة مقبوضة ترتفع أكثر فأكثر، فتبتسم أزهاره وتدعوني للتباهي والتفاخر، بما تستطيع أمي تقديمه من حياكة مبدعة، وأنا أسير بكل غرور بين جنبات ذلك القصر، انه الثوب الثاني الذي تخيطه أمي لي منذ عرفتك، لم أحلم يوماً بثوبين في شهر واحد، لذلك أثرت أن أعطي أختي ثوبي الأول، لأنها لم تحصل على واحد جديد منذ أشرقت عيناها على نفحات الصبا، ورأيت كيف تبدلت ملامحها و أصبحت براقة يانعة زكية الروائح تماماً كتلك الزهرات المزركشة على ثوبي الأحمر، والتي لم أكن أعلم أنها ستغادر هي الأخرى من تلك النافذة الكبيرة إلى غير رجعة، لكن ذلك البيت المزين بثريات عجيبة، يناجي طفولتي بأصوات غريبة لم أكن أفهمها، ويدعوني اتساعه غير المعهود بالركض طويلاً، ثم ألتفت وقد غدوت ملكة هذه الدنيا.
تنظر إلي بطرف عينيك، فترتجف أوصالي، وتنكمش زهرات ثوبي، ولا أعود أشم روائحها العطرة، وحياكة أمي غابت عن بالي، بعد أن خرجت صورتها هي الأخرى من ذات النافذة الواسعة، ابتسمت شفتاي، في محاولة لاستخراج بسمة من شفتيك المتحجرتين كالطين المسنون، فلم استطع، مددت يدي المرتجفة إلى يدك، فوجدتها قد تشققت على خطوط زرقاء اللون، وبقع بنية تغزو وجه السطح المغطي لأصابعك، فتبدو شعيرات بنية متناثرة هنا وهناك كشرارات تنطلق لتصعق الناظر إليها.
أنظر هناك في زاوية القصر البعيدة الشاسعة، وعلى امتداد عيناني المتطلعتان إلى المجهول، تقع عيناي على شجرة لبلاب ممتدة تصعد من أصيص صغير أسفل النافذة، فأشعر فجأة بألفة، عروقها اليانعة تبحث في العتمة عن ضوء فتقتاد إلى الشباك المنصوبة خلف الزجاج حيث يختبئ ضوء الشمس هناك، تقول أمي أني أشبه شجرة اللبلاب، تعيش في الظل، وتمتد بصمت، نسيت أمي أن شجرة اللبلاب، تعيش في الظل، لكنها لا تعيش في العتمة، بل تبحث دوماً عن طريق إلى ضوء الشمس.
تذكرت، فانتصبت، والتزمت الصمت، وعدت إلى هدوئي بين ضحكات وغمزات المتفرجين، هي تلك السنين التي لم تصل حبل ود بيننا، كانت همومها أطول من كل حبال الود، فلم أقدر على مجاراة طولها، بعد أن تحولت الأزهار الحمراء في ثوبي إلي ثوب أسود، والضفائر الطويلة تفجرت منها طيات غريبة معلقة بأعلى رأسي، ونسيت إلى أي طول قد وصلت خصلات شعري، وشجرة اللبلاب، تجاوزت حدود النافذة وامتدت لتطال سقف القصر الموحش، فبدت مخيفة بأوراقها الخضراء المصفرة.
تلك اللحظة، حيث إشارة بطرف إصبعك جرتني ورائك كالفريسة المهزومة في معركة قتام، لا تقوى على رفع رأسها لتتجرع طعم الهزيمة المر.
ركضت خلفك بعد أن أغلقت الباب، وأغلقت الستائر، وساد صمت غريب مطبق، بدون فرح، يدون غناء، بقلب مرتجف صغير، أراقب من بعيد، حياتي التي دخلت هنا في ذات يوم، مودعة ضوء الشمس الآفل، والذي لم يشرق منذ ذلك اليوم.