منذ نشأتها وفقا لاتفاقات أوسلو أدخلت السلطة الفلسطينية القضية الفلسطينية في منزلقات ومتاهات بالغة الخطورة، وجعلت من القضية ألعوبة بيد الشرق والغرب ومطية لأصحاب الأجندة الخاصة والأغراض الرخيصة.
ولم يكن الشعب الفلسطيني أفضل حالا؛ فقد تأثرت مختلف شرائحه وأطيافه الشعبية بألوان المعاناة التي تعاقبت عليها في مختلف الأصعدة والمجالات، ودفعت ثمن الارتهان للقرارات والأجندة الخارجية من جهة، وثمن الممارسات الفاسدة التي أدمنت عليها السلطة حتى اليوم من جهة أخرى.
مع وجود السلطة تشوهت المعادلة الفلسطينية التي "استوت" فترة من الزمن على سوق مواجهة الاحتلال، وتخللتها نضالات وانتفاضات مقدّرة، وأضحت حالة مأزومة في ظل هيمنة الاحتلال وسيادته، فلا هي تدرك توصيف نفسها ككيان يلتمس بناء مقومات دولته المستقلة وركائزها ويعمد إلى البناء الداخلي، ولا هي تمضي في مسار الكفاح والمقاومة لتحرير الأرض من دنس الاحتلال على وقع مخططات الاستيطان والتهويد التي تبتلع الأرض الفلسطينية دون هوادة.
ما بين ائتلاف النقيضين الذي اختلطت فيه مساعي البناء الداخلي بجهود التحرر الوطني شهد الواقع الفلسطيني اختراق كثير من المحرمات والخطوط الحمراء الوطنية التي جعلت من الالتزامات الأمنية مع الاحتلال -وفقا لاتفاقية أوسلو وملحقاتها- تكئة لتبريرها؛ فالاعتقال السياسي وخنق الحريات العامة وقمعها، وضرب المقاومة ومحاولة استئصالها، وعسكرة المجتمع، وسيادة سلوكيات الفلتان الأمني، والتعاون الأمني مع الاحتلال الذي كانت ثماره المرّة اغتيال واعتقال المقاومين.. شكلت –وما زالت- مظاهر سوداء في سجل ممارسات السلطة الفلسطينية طوال المرحلة الماضية، وما زالت تجد صداها وشرعية اقترافها في قمة الهرم السياسي السلطوي الفلسطيني، وبقرارات وسياسات رسمية معتمدة.
أدارت السلطة الشأن الوطني وعملت على بناء مؤسسات وهياكل رسمية من أجل تنسيق شؤون الناس وإرساء الأرضية المواتية والقواعد الصلبة لإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة، وأجرت انتخابات رئاسية وتشريعية في إطار الحراك المتبلور نحو العمل الديمقراطي، وتشكّل لذلك برلمانا عتيدا وحكومات متعاقبة تحت أسماء براقة وألقاب لامعة.. فماذا كانت النتيجة في نهاية المطاف؟.. لا شيء.. هذه خلاصة ما بلغناه من وراء كل العمل وكل الجهد في مرحلة ما بعد نشأة السلطة حتى اليوم.
لم نخدم شعبنا وفق المأمول، وما فعلناه أننا حشدنا "جيشا عرمرما" من البطالة المقنعة في إطار وظائف السلطة التي تنتظر راتبها نهاية كل شهر، ولم نبنِ مؤسسة حقيقية واحدة تصلح للاستفادة منها بصورة حقيقية باعتبارها ركيزة من ركائز الدولة، وعايشنا فصولا من الإخفاق المدقع في تأسيس تجربة ديمقراطية حقيقية تشكل نواة صلبة لمرحلة الدولة الموعودة.
رئيس السلطة ليس له حصانة، ويحتاج كأي مواطن عادي إلى تصريح للمرور من سلطات الاحتلال، وهو غير بعيد عن سوط العقاب والاستهداف فيما لو خرج عن لعبة الالتزامات المفروضة، وتجربة الراحل عرفات خير شاهد وعنوان، ولا حصانة للوزراء والنواب وكبار المسؤولين الذين احتضنتهم –وما تزال- سجون الاحتلال وزنازينه أسوة بغيرهم من أبناء شعبنا، ولا قيمة سياسية أو اعتبارية للسلطة في مناطق عملها ونطاق إدارتها، والجيش الإسرائيلي جاهز للاستباحة والاقتحام في أي لحظة، ولا... ولا.. والقائمة تطول!..
"استحقاق سبتمبر" يشكل آخر "تقليعات الإخفاق السلطوي" في إدارة الشأن الوطني والقضية الفلسطينية؛ فالسلطة أدركت "ورطتها" وخطورة خروجها عن النص المرسوم، وأصبحت في "حيص بيص" من أمرها، وها هي تلتمس المخارج الهابطة للنزول عن شجرة مواقفها قبل أن يهوي عليها سيف الفجور الإسرائيلي، وتعصف بها مطرقة الغضب الأميركية.
جردٌ بسيط لحساب الأرباح والخسائر الوطنية منذ تأسيس السلطة حتى اليوم يؤكد أننا لم نخسر -في ظل وجود السلطة- الكثير فقط، بل إننا نخسر بصورة دائمة ومتواصلة، وإن قضيتنا وكينونتنا ودورنا الفلسطيني إلى تراجع وانكسار.
باختصار: أضحت السلطة -بصورتها وهياكلها ودورها الحالي- عبئا كاملا على شعبنا الفلسطيني وقضيته الكبرى ومشروعه الوطني.. فلا سلطة ولا ديمقراطية تحت الاحتلال.
وللحديث بقية..