رشا فرحات
يتقدم خطوة أخرى في طريق معتم، يحيي أصحابه في موعد على ذات الطريق، يجلس في أحد المقاعد المرصوصة على الأرصفة المطلية بالأحمر والأبيض، وهناك في الناحية الأخرى يتجالس أولئك على رصيف أخر، في عتمة المكان المشابه، لا فرق هنا بين الأرصفة، جميعها مطلية بذات الألوان، وجميعها تحمل على حجارتها مقاعد متشابهه لرؤوس متشابهة تجلس هنا كل يوم في ذات الموعد.
يخرج زجاجات خضراء، يرصها بجانب المقاعد الخشبية، ويبدءون ليلتهم، فيرتشفون، ويفرغون ما في رؤوسهم في تلك السلة، مع الزجاجات الفارغة الخضراء، وقلوبهم تخرج من مكانها، وتسلم إلى ذلك الطير الأسود المحلق منذ غابت الشمس في تلك البقعة، بهدوء يفرد جناحيه، وعيناه تحدقان في الفضاء الرحب الطويل، و هذه الساعة المتأخرة، بصمت مرعب، تحدق هي الأخرى، تخيفهم فلا يكترثون.
كانوا ثلاثة قبل أن يأتي رابعهم حاملاً بيده لفافة ملونة بألوان قبيحة، هكذا شعر بينما عجز عن تحديد لونها، أو إلى أي الألوان تقترب، تلف تلك اللفافة بين طياتها مجموعة لفافات بيضاء، يسلمهم ذلك الرابع لفته، فيبدءون بالاستنشاق والغناء، تعلو الأصوات على الأرصفة المتجاورة، بينما تمر السيارات سريعة في منتصف الطريق بينهما، مسرعة، بلا اكتراث، ورؤوسهم تلتف مسرعة أيضاً مع كل مصباح يضيء الطريق المعتم، كلما مرت سيارة في الطريق، قبل أن يعود إلى سواده، فيستنشقون وينفثون في الهواء، فترّقط العتمة بضوء لفافاتهم المتشابهة، وأصوات غنائهم تعلن ثملهم المعتاد، ويزداد الشبق، وتقف الأقدام المهزوزة لتتراقص على قارعة الأرصفة، في رقصة بطيئة وركب مرتعشة غير متصلبة، فيقع منهم من يقع، ويتمددون على طول الرصيف، والمصابيح السريعة تضيء الطريق للحظات عابرة، في ذلك الوجع العابر، ثم تعود العتمة إلى اللحظة المخمرة الساكرة.
هناك من بعيد تتقدم نحوهم قدمان رقيقتان، ترتجفان، تترددان في السؤال، ثم تدفعها خطوة إلى الأمام، بينما خوفها يسحبها للخلف قليلاً، فستانها يتطاير في زحمة الوجع، ومع سيارة مارقة ومصباح مضيء، فيضيء ضوء قدماها للحظات عابرة، فيحرك عدسات عيون الراقصين المخمورين بلهفة، المنتظرين لفريسة تعبر من أمامهم فتزيد السكرة، وتعلو أصوات الغناء أكثر، يتسارعون إلى مصدر الضوء.
تتأخر القدمان المضيئتان خطوة أخرى إلى الخلف، تتمهل، ربما كان هناك معين، طريق طويل، ومصابيح تمر مع مرور السيارات ، فتضيء أملاً بعيداً، ثم تعود العتمة إلى المكان المهجور المنقطع، حيث لا مكان إلا لطيور ليلية مفترسة، تحاول هي أن تخبئ قدماها، تشد الخمار على رأسها قليلاً، تضم جسدها إلى صدرها، برداً وخوفاً، بينما أرجلهم تقترب إليها، يسألها أحدهم، يتأثر الأخر، يتردد الاثنين، ويمنعهم الثالث من السؤال، لا داعي للأسئلة، تعلو أصوات الاثنين رفضاً، بينما يصر الثالث على التقدم، قدماها ما زالتا تضيئان عتمة عينيه، والطريق تضيئها مصابيح عابرة.
قفزت إلى قاع الطريق راكضة إلى الرصيف الأخر، الطريق يضيء فجأة، مصباح أحمر يأتي وهاجاً مسرعاً في ذات الطريق، بعيداً وليس ببعيد، ترمي قدماها مسرعة، لتأخذ مكانها في منتصف ساحة الموت، تتوهج القدمان، وضوء اللفافة العفنة يركض كطائر مفترس، مسرعاً، ثملاً، فتعلو أصوات الجالسين على الأرصفة، يعتدلون في جلستهم، يقفون، يتصارخون، تقع لفافاتهم أرضاً، تتكسر الكؤوس، أصدقاء الطريق يتصارخون، ينادونه بصوت واحد، تركض الصبية، تضيء قدماها، وتقطع الطريق، وتلك اللفافة في تلك اليد، تقع في مفترق الأضواء فتعلن انتهاء فرصة أخيرة.