د. يونس الأسطل
( قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(
( الأنعام71 ،72)
مضى على المفاوضات العلنية مع الاحتلال الصهيوني ثماني عشرة سنة، وكانت السِِّرِّية منها قد ناهزت عشرين عاماً أو يزيد، واليوم يجيء أزلام السلام أو الاستسلام ليعترفوا بالفشل، وأنهم باؤوا بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، ولا أمل في سلامٍ ولا دولةٍ ولا ما يحزنون، فقد عَلَّقوا آمالهم على وُعودٍ أمريكية بالضغط على الصهاينة لإيقاف الاستيطان ولو مؤقتاً؛ لحفظ ماء الوجوه عند العودة إلى المفاوضات العقيمة، فجاءت الصفعة في لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية الأخيرة بأن المفاوضات يجب أن تستأنف، ولا يشترط لها تجميد الاستيطان، وأنه بالإمكان التفاوض على خرائطه؛ ورؤية ما يمكن تأجيله، الأمر الذي دفع عباس للتهديد بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية المنظورة، وكان رَدُّ تلك الوزيرة مستخفاً به، إذْ أعلنت أنها ستتعامل معه على أيِّ صفةٍ كان، وهو رَدُّ ينطوي على عدم الأسف عليه لو كان صادقاً في دعواه التنحي؛ والظاهر أن دوره قد انتهى، وأضعف الإيمان أن يَذَرُوه في حاله بعيداً في الظل، يقضي ما تبقى من ساعات عمره، وقد يَضِيقون به ذرعاً، فيلقى نفس مصير مَنْ سبقه، دون أن يأسى عليه أحد، فها هو عرفات قد قضى مسموماً، ومضى عليه خمس سنوات، ولم يبدأ تحقيقٌ جَدْيٌّ لمعرفة أسباب زهوقه، فضلاً عن أن يُعْرَفَ القتلة الحقيقيون، فَيَلْقَوْا جزاءهم.
وقد اعترف المنعوت بكبير المفاوضين بأنهم كانوا يركضون طيلة تلك الفترة وراء سرابٍ بقيعةٍ، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ولو كانوا يقرؤون القرآن لعلموا أن اليهود لا يُؤتون الناس نقيراً، بل يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنون أن ينتزعوا ما في أيدينا، فقد غُلَّتْ أيديهم، وهم يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ويظنونه خيراً لهم، وأكثرهم مِمَّنْ إنْ تَأْمَنْه بدينارٍ لا يُؤدِهِ إليك، إلا ما دُمْتَ عليه قائماً.
ومن عجبٍ أن هؤلاء المعترفين بالفشل لا زالوا يودون لو يجروننا إلى خيارهم، بأن نعترف بشرعية الاحتلال، ونُقِرَّ بيهودية دولة الصهاينة، وأن نَنْبِذَ المقاومة، وأن نَقْبَلَ باشتراطات الرباعية، وهو ما يعني الاستسلام المطلق لإرادة العدو، ولرغبة الأمريكان، تلك التي تقوم على تسويقها أنظمة إقليمية باسم رعاية الحوار، وهو ما انطوى عليه العبث بورقة المصالحة مؤخراً، حينما دُسَّ فيها ما يُفَرِّغُها من مضمونها، بعدم الجدية في إعادة تشكيل المجلس الوطني، وإحياء منظمة التحرير، ثم العبث بالانتخابات من خلال قانونها الجديد، واللجنة العليا لها، ومرجعيتها، ومحكمتها، والذهاب إليها دون تهيئة الأجواء، فلا السجناءُ الألفُ لحركة حماس قد خرجوا من سجون دايتون، ولا الجمعيات الخيرية قد أُعيد فتحها، ولا التعاون الأمني مع الاحتلال قد تراجع، فليس هناك ما يُطَمْئِنْ بإمكان إجراء الانتخابات، فضلاً عن نزاهتها، وهو ما صَرَّحَ به مؤخراً من نَصَّبوه رئيساً لِلَّجنة التحضيرية لها.
أما هذه الآية من سورة الأنعام فسبب نزولها أن قريشاً كانت قد عرضت على المؤمنين أن يتركوا دينهم، وأن يتبعوا سبيلها، وهم يتعهدون بأن يحملوا خطاياهم، أو أن يجعلوه حلَّاً وسطاً؛ بأن يعبدوا إلهنا الحقَّ يوماً، ونعبد آلهتهم الباطلة يوماً آخر، والمهم عندهم هو انتزاع الاعتراف بأحقية آلهتهم بالطاعة، وطلب النفع منها، واتقاء ضُرِّها، فأنزل الله جل جلاله هذه الآيةَ وأخواتِها، وفيها يلقن نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يسألهم سؤال استنكار، ( أندعوا من دونِ اللهِ مالا ينفعُنا ولا يضرُّنا، ونُرَدُّ على أعقابِنا بعدَ إذْ هدانا الله)؟!، فهل يعقل أن نترك طاعة الله، وهو الضارُّ النافع؛ لنعبد مالا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن أن يملك لنا ذلك، إننا لو فعلنا ذلك نكون قد رُدِدْنا على أعقابنا، فَعُدْنا في الكفر، بعد إذْ هدانا الله للإيمان.
ثم راح يضرب مثلاً لمن أطاعهم بأنه يكون كالممسوس الذي استهوته الشياطين في الأرض، فهو يظنُّ أنه على هدى، مع أنه أمسى يركض وراء الشياطين، وبات حيرانَ مَنْ يَتْبَعُ؛ فإن له أصحاباً لا زالوا على الهدى، وهم يدعونه أن يأتيهم، فيكون معهم، وينجو من التيه والحيرة، ولا زال حيران متردداً هل يعود إلى أصحابه أم يبقى مع الذين هم في طغيانهم يعمهون؟، والمرجح أن يظلَّ في العذاب والضلال البعيد، وسيعلمون من هو شَرٌّ مكاناً، وأضعف جُنْداً.
ثم أمر الله جل جلاله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم: ( إن هدى الله هو الهدى، وأُمِرنا لنسلم لرب العالمين)، فقد أكَّد أن الهدى محصور في هذا القرآن، لا في غيره مما جرى تحريفه من دين إبراهيم وإسماعيل، أو حتى من التوراة والإنجيل، ذلك أن نفس الجواب هو الذي جاء ردَّاً على أهل الكتاب حين أخبره سبحانه أنه لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم: ( قل إن هدى الله هو الهدى ..) البقرة( 120).
لذلك فإننا قد أمرنا لنسلم لرب العالمين وحده لا شريك له، ولن نزال متمسكين بعروته الوثقى حتى نلقى الله ثابتين على الدين، لا نَقِيلُ ولا نستقيل، ولعل أهم مظاهر الإسلام لله هو إقامُ الصلاة، ثم عموم التقوى، فإن الله جل وعلا هو الذي إليه تحشرون، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
إنه من المناسب هنا أن نشير إلى أن الحشر إلى الله الذي خُتِمتْ به هذه الآية، وكان فاصلةً لعشر آياتٍ في القرآن الكريم، قد شُرِعَ ركنُ الحج ليكون من مقاصده المرور بتجربة مصغرة للحشر الأكبر، فإن ارتداء ثياب الإحرام مُشْبِهٌ لأكفان الموتى، وكانت محظورات الإحرام لتأكيد الانتقال للآخرة، ثم إن الوقوف بعرفة، والإتيان إليه من كل فَجٍّ عميق على الأرجل، أو على كلِّ ضامرٍ مهزول من طول السفر للتذكير بموقف الحشر؛ إذْ يجيء إليه أكثر الناس رجالاً، بينما يأتي المؤمنون رُكباناً، فإن المتقين يحشرون إلى الرحمن وَفْداً، بينما يساق الكافرون إلى جهنم وِرْداً؛ أيْ عِطاشاً ظمأى.
وأما التحول إلى مزدلفة، وهي المشعر الحرام، ثم إلى منى وما فيها من رمي الجمار، فهو مُذَكِّرٌ بجهنم التي ترمي بشررٍ كالقصر، كأنه جِمالةٌ صُفْر، ثم إلى مكة البلد الأمين، وهي آخر مستقر الحجيج، حيث إن المتقين في مقام أمين في جناتٍ وعيون، ولما كان يوم القيامة ينتهي بأن ترى الملائكة حَافِّينَ من حول العرش، كان الحج ينتهي بطواف الوداع، ولم يكن عبثاً أن يختم الله سبحانه أحكام الحج في البقرة بقوله " .. واتقوا الله، واعلموا أنكم إليه تحشرون".
إننا نقول لعباس وللسلطة والمنظمة وحركة فتح: إن هُدى الله هو الهدى، ونحن ندعوكم إلى الهدى، فَدَعُوكُمْ من استهواء الشياطين واليهود، واتركوا الحيرة، وتعالوا إلى خيار المصالحة والمقاومة؛ فإن الشراكة والوحدة هي المخرج الوحيد من تيه الأربعين سنة الماضية، فقد تمكنت المقاومة من إلحاق الهزيمة بالاحتلال في جنوب لبنان مرتين، وفي جنوب فلسطين مرتين ، أليس منكم رجل رشيد، أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضبٌ من ربكم، فاتخذتم الدولة عِجْلاً؟!!
والله من وراء القصد