صالح النعامي
شهدت العلاقات بين تركيا و(إسرائيل) مزيداً من التوتر في أعقاب صدور تقرير الأمم المتحدة المتعلق بأحداث أسطول الحرية، الذي أطلق عليه تقرير "بالمر"، وبعدما أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو رفضها المطلق تقديم اعتذار لأنقرة على قيام الجنود (الإسرائيليين) بقتل تسعة من نشطاء السلام الأتراك الذين كانوا على متن سفينة "مرمرة " التركية التي شاركت في أسطول الحرية، أواخر مايو 2010.
لقد توقعت (إسرائيل) تصعيداً تركياً في أعقاب صدور التقرير الأممي الذي خذل تركيا وفلسطين بإضفائه شرعية على الحصار البحري الذي تفرضه (إسرائيل) على قطاع غزة، لكن قليلين في (إسرائيل) توقعوا أن تصل الأمور إلى حد طرد السفير (الإسرائيلي) من أنقرة، وتجميد أشكال التعاون الأمني مع (إسرائيل)، وما زاد تعقيد الأمور بالنسبة لـ(إسرائيل) هو تشديد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو على أن الخطوات العقابية التركية تمثل خطوة أولى في سلسلة من الخطوات العقابية ضد (تل أبيب).
وعلى الرغم من أن تقرير الأمم المتحدة شرع الحصار (الإسرائيلي) على قطاع غزة، إلا أنه في المقابل شدد على أن الجيش (الإسرائيلي) استخدم القوة المفرطة وغير المتكافئة في السيطرة على "أسطول الحرية" مما أدى إلى وقوع العدد الكبير من الضحايا في الجانب التركي، وهذا ما يساعد تركيا على رفع دعاوى قانونية في المحافل القضائية الدولية ضد القادة والجنود (الإسرائيليين) الذين شاركوا في الهجوم على "مرمرة ". لكن أكثر ما تخشاه (إسرائيل) هو أن تكون الخطوات العقابية التركية فاتحة لسلسلة من الإجراءات الأكثر شدة، حيث إنه بإمكان تركيا القيام بخطوات تسبب أذىً كبيراً لـ(إسرائيل)، لاسيما في ظل التحولات الهائلة التي تشهدها المنطقة العربية حالياً. لكن ومع ذلك فإن هناك في (إسرائيل) من يراهن على أن تركيا ستتريث طويلاً قبل الإقدام على خطواتها اللاحقة، ويطرح هؤلاء المتفائلين أربعة أسباب تبرر هذا الرهان:
أولاً: تنطلق الاستراتيجية التركية من افتراض مفاده أنه يتوجب مواصلة لعب دور إقليمي نشط وفعال، وتحقيق هذا الهدف يتوقف على قدرة أنقرة على بناء علاقات قوية مع مختلف القوى الإقليمية في المنطقة. وقد نجحت هذه الاستراتيجية عندما تمكنت أنقرة من إقامة علاقات قوية مع كل من سوريا وإيران ومصر ودول الخليج والعراق. ويرون في (إسرائيل) أن أنقرة وظفت لهجتها الصارمة ضد (إسرائيل) لتحقيق اختراقات في الساحات العربية المختلفة.
لكن في أعقاب تفجر الثورة السورية، وإخفاق أنقرة التام في التأثير على مسار الأحداث هناك، وما تبعه من تدهور في العلاقات مع طهران، فإن الدور التركي تراجع إلى حد كبير. ويرون في (تل أبيب) أن التحسن في العلاقات التركية المصرية مضلل إلى حد كبير، حيث أن كلاً من القاهرة وأنقرة تتنافسان على لعب نفس الدور الإقليمي. من هنا فإن الأوساط (الإسرائيلية) ترى إن تركيا ستكون مضطرة لتحسين علاقاتها مع (إسرائيل) من أجل تمكينها من استعادة قدرتها على لعب الدور الإقليمي الذي تراهن عليه في تحقيق مصالحها المختلفة.
ثانياً: ترى المحافل (الإسرائيلية) أن الولايات المتحدة لا يمكنها التسليم بمواصلة التوتر في العلاقات بين أنقرة و(تل أبيب)، حيث أن كلاً منهما يعتبر حليفاً استراتيجياً هاماً للولايات المتحدة، وتخشى واشنطن أن تمثل هذه الأزمة مصدراً من مصادر تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة، لاسيما عشية الانسحاب الأمريكي النهائي من العراق وبدء الانسحاب من أفغانستان. علاوة على أن تواصل التوتر بين الجانبين يمكن أن يشكل بحد ذاته مصدراً من مصادر التوتر في المنطقة، ويعزز فرص حدوث مزيد من التدهور في الإقليم. من هنا فإن هذه المحافل تأمل أن تمارس الإدارة الأمريكية أكبر قدر من الضغط على أردوغان لتسوية الأزمة مع (إسرائيل).
ثالثاً: هناك في (إسرائيل) من يرى أن حكومة نتنياهو تمكنت من إيجاد بدائل استراتيجية لتركيا، حيث أن دول البلقان – وتحديداً اليونان– عدو تركيا اللدود، أصبحت تتنافس على التقرب من (إسرائيل) في أعقاب التوتر في العلاقات بين أنقرة و(تل أبيب). فعندما توقفت تركيا عن السماح لطائرات سلاح الجو (الإسرائيلي) بالتدريب في الأجواء التركية، سارعت اليونان ورومانيا والتشيك على فتح أجوائها أمام سلاح الجو (الإسرائيلي). وبالتالي فإن الكثير من المحافل (الإسرائيلية) تراهن على إن إدراك أنقرة قدرة (تل أبيب) على تدبير شؤونها عبر نسج تحالفات بديلة سيجبر حكومة أردوغان على التراجع.
رابعاً: هناك من يزعم في (إسرائيل) أن قرار أنقرة تجميد التعاون الأمني لا دلالة له، على اعتبار ان أنقرة قد أمتنعت بالفعل منذ أكثر من عام عن عقد أية صفقات سلاح مع (إسرائيل)، علاوة على أن التعاون الاستخباري قد تراجع إلى حد كبير بين الجانبين منذ أكثر من عام. وفي المقابل فإن حكومة أردوغان لم تتعرض للعلاقات الاقتصادية، حيث أن التبادل التجاري يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات سنوياً.
من هنا فإن (إسرائيل) ترى أنه يتوجب محاولة احتواء الغضب التركي دون تقديم أي تنازل جدي، فمن ناحية يواصل الخطاب الرسمي (الإسرائيلي) التشديد على أهمية العلاقات بين (إسرائيل) وتركيا وحرص (تل أبيب) على إخراجها من المأزق الحالي، وفي نفس الوقت تصر حكومة نتنياهو على عدم تقديم أي شكل من أشكال الاعتذار لأنقرة.
لكن من الواضح أن القراءة (الإسرائيلية) لا تعبر عن حقيقة الأمور، ففقط العنجهية (الإسرائيلية) هي التي تدفع للاعتقاد أن الدور الإقليمي لتركيا يمكن أن يمر بالبوابة (الإسرائيلية)، حيث إن التطورات المتلاحقة في المنطقة ستفتح في المستقبل المزيد من الفرص أمام تركيا وليس العكس، علاوة على أن الولايات المتحدة سبق لها أن مارست أكبر قدر من الضغوط دون نجاح يذكر في دفع أنقرة للتراجع.