ياسر الزعاترة
باستثناء حفل استقبال الرئيس العائد من نيويورك بحضور جحافل رجال أمن السلطة وكثير من موظفيها، كانت الفعاليات الشعبية احتفالاً بالخطاب التاريخي محدودة رغم حشد فتح والسلطة، ما أكد أن "بروباغندا" الناطقين باسم السلطة في الإعلام العربي لم تنعكس على الجمهور الفلسطيني، من دون أن نستثني وجود مقتنعين بالخطوة "التاريخية"، حتى من المروجين لها في وسائل الإعلام.
في الشتات مرَّ الأمر كمناسبة عادية جداً لا تستحق الاهتمام باستثناء حشد فتحاوي في لبنان، ويكفي أن نشير كتفسير لذلك إلى كلام الرئيس الفلسطيني في "الخطاب التاريخي" عن حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين بحسب المبادرة العربية، فيما يعلم الجميع أن كلمة متفق عليه تعني أنه لن يعود أحد منهم للأراضي المحتلة عام 48، فيما كان اللاجئون جميعاً قد أخذوا علماً بما فضحته وثائق التفاوض من استجداء السلطة لعودة 100 ألف فقط خلال عشر سنوات، واستعدادها بعد ذلك لقبول عودة 30 ألفاً، ثم عرض أولمرت لعودة 10 آلاف، ودائماً على عشر سنوات، وصولاً إلى تأكيد تسيبي ليفني لعريقات وأحمد قريع أن ذلك رأي أولمرت الشخصي وأن رقم العائدين هو صفر.
لا أعرف كيف يتجاوز المحتفلون بالخطوة التاريخية وثائق التفاوض تلك بكل ما فيها من تنازلات، رغم إصرار الزعيم التاريخي على أنه مستمر في التفاوض، وأن ما لا يحل بالتفاوض يحل بمزيد من التفاوض؟! كيف تستوي تنازلات تلك الوثائق مع المعزوفة التاريخية عن الدولة كاملة السيادة في حدود 67 بما فيها القدس الشرقية، وكيف سيفرض على نتنياهو الرضوخ لهذا المطلب الذي لم يرضخ له "حمائم" الكيان مثل أولمرت وباراك وبيريس، لا سيما بعد الدعم اللامحدود من قبل واشنطن والذي ثبت أنه دعم يتجاوز إرادة أي رئيس بعدما أصبح اللوبي الصهيوني مسيطراً على الحزبين الجمهوري والديمقراطي؟! أياً يكن الأمر، فنحن ننتظر من المحتفلين بالخطوة التاريخية أن يخبرونا كيف سيجري تحرير أراضي الدولة العتيدة، وهل إن المقاومة السلمية بطريقة الرئيس الفلسطيني هي التي ستفعل ذلك.
نستأذن القراء الأعزاء في أخذ هذا الاقتباس الطويل للتسلية والفائدة، وهو جزء من مقال للكاتب الإسرائيلي والمحلل الأمني والعسكري المعروف إليكس فيشمان نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 16/9/2011، وكان بعنوان "خطة ضبط النفس". ولا أعتقد أن عاقلاً يفهم قليلاً في منظومة الإعلام الإسرائيلي يمكن أن يدعي أن الرجل يكذب. يقول الكاتب "قبل نحو أسبوعين حضر ضيوف غير معتادين إلى موقع أمني إسرائيلي مهم، وكانوا ممثلين عن أجهزة الأمن الفلسطينية. وقد طلبوا الحصول على وسائل "عدم قتل" لتفريق المظاهرات (قنابل إحداث صدمة، قنابل غاز، غاز مسيل للدموع، قنابل دخان، وسيارات لرش الماء). فقد استوعبوا هناك في السلطة فجأة أن الردع وحده لن يكفي وأنهم قد يفقدون السيطرة.
إلى ما قبل شهر اعتاد ضباط في أجهزة الأمن في الضفة أن يسخروا على مسامع نظرائهم الإسرائيليين من الذعر الذي أصابهم والاستعدادات المبالغ فيها -في رأيهم- من قبل الجيش الإسرائيلي استعداداً لأحداث استحقاق أيلول (إعلان الدولة). وفجأة مُحيت ابتسامهم أيضاً. فقد أدركوا فجأة أن المارد على هيئة جمهور متحمس مُحرَّض، حتى لو أخرجوه هم أنفسهم من القمقم، قد لا يعود إلى الداخل كما وقع في تونس ومصر وليبيا. وهذا المارد قد يغرق الحلم الفلسطيني بالاستقلال في الدم والنار أيضاً.
احتاجت وزارة الدفاع إلى عدة أيام لإمضاء الطلب الشاذ. بل إن الأميركيين الذين أوكل إليهم تدريب كتائب أمن السلطة والإنفاق عليها طلبوا من "إسرائيل" المساعدة. وأوصى الجيش الإسرائيلي أيضاً بالاستجابة. وفي نهاية الأمر أجاز المدير العام لوزارة الدفاع جزءاً من صفقة الشراء". (انتهى الاقتباس).
نذكّر أيضاً بحملة الاعتقالات والاستدعاءات الشرسة التي طالب مئات من عناصر حماس والجهاد في الضفة خلال الأيام التي سبقت الاستحقاق التاريخي خشية أن تنفلت الأمور وتبدأ الانتفاضة الموعودة، والتي تعمل السلطة بكل ما أوتيت من قوة في المساجد والمدارس والجامعات وسائر مؤسسات المجتمع على تطبيع المجتمع على منع اندلاعها.
بتمرير إعلان الدولة أو بدونه سيعود القوم إلى المفاوضات، ولو عُرض عليهم ما كانوا على وشك التوصل إليه مع أولمرت لوافقوا عليه، ولكن الأمر لن يكون كذلك، إذ ستتواصل عملية "بناء المؤسسات" بإشراف سلام فياض (الأمنية منها بإشراف الجنرال مايكل مولر)، وصولاً إلى دولة الجدار الأمني التي ستغدو في حالة نزاع حدودي مع جارتها.
ليس هناك من يعترض على المقاومة السلمية، ولكن المقاومة السلمية التي تفرض التراجع على العدو، وليست الاستعراضية التي يريدها قادة السلطة. المقاومة التي تشتبك مع الحواجز والمستوطنات وتقدم الدم والتضحيات، وتلتحم مع الشتات الفلسطيني في المحيط العربي وتستنفر الشارع العربي والإسلامي لدعمها.
هل هم جاهزون للتوحد مع الشعب وقواه السياسية على خيار من هذا النوع؟ الجواب معروف، ولكن بعض قومنا لا يعقلون.
بقي أن أعلن على الملأ بأن من يتوقع مني أن أصفق لخطاب أو موقف يتنازل منذ البداية عن 78 في المئة من فلسطين للعدو لن يهنأ بذلك. أنا شخصياً قريتي محتلة عام 48، ولم أفوض محمود عباس بالتنازل عنها كما تنازل عن حقي في العودة (هل ثمة عودة بدون تحرير؟!).
صحيفة الدستور الأردنية