قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: "تايتانك" العبرية

خيري منصور

هذه مقالة عبرية كنا ننتظرها أو ننتظر ما يشبهها منذ قرن، أي في العام الذي غرقت فيه الباخرة الشهيرة تايتانك رغم الدقة والإحكام في صناعاتها، ومقالة “ميراف أورلوزورف في “هآرتس” قبل يومين بعنوان: “تايتانك تبحر نحو فلسطين جاءت بالفعل متأخرة عن موعدها مئة عام”؛ فالمقالة تقارن بين وَهْم الصناعة المحكمة ومهارة القبطان في تايتانك وما يماثلها في الدولة العبرية، ولكن تايتانك تحطمت لسبب ارتطامها بجبل جليد كان معظمه غاطسا في المحيط ولم يكن فيها من قوارب الإنقاذ بما يكفي لإغاثة الركاب، وذلك لسبب المبالغة في الثقة بالنفس وبالباخرة الباذخة.

سيناريوهان أمام (تل أبيب) وفق تصور صاحب مقالة التايتانك: أولهما الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولهذا السيناريو أخطار منها تمدد حركة “حماس” إلى الضفة الغربية.. وثانيهما البقاء في تلك الأراضي وتكريس الاحتلال، وخطر هذا السيناريو هو نبذ (تل أبيب) دوليا وعزلتها وتصاعد الرفض في العالم لسياستها.. فأيهما جبل الجليد الغاطس في المحيط والمتربص بتايتانك؟: هل هو البقاء أو الانسحاب أو كلاهما؟..

إن المقالات التي من هذا النوع تترك الباب مفتوحا للتأويلات لأنها بالأساس رمزية، سواء في مقتربها السياسي أو فيما يمكن استخلاصه من الحكاية.

فإذا كان تمدد “حماس” إلى الضفة الغربية يوازي العزلة والإقصاء الدولي فإن معنى ذلك التوقف تماما والمراوحة في أحسن الأحوال بين مفاوضات عبثية وأخرى أكثر عبثية منها، لأنها تكررها بلا طائل.

ولأن المقالة التي قارنت بين الدولة العبرية وتايتانك فضلت الدخول من النافذة -وليس من الباب- إلى أكثر القضايا سخونة وتعقيدا الآن؛ فمن المناسب أن نروي حكاية أخرى عن ذلك الراعي الذي تورط في جبل مغناطيس لأن المسامير تغطي عصاه وحذاءه، ولم يكن ذكيا بما يكفي لأن يرمي العصا أو يخلع الحذاء فحكم عليه بالعزلة والجوع والموت.

الاحتلال لا يحمل عصا مملوءة بالمسامير فقط بل يملأ الجبل من سفحه إلى قمته بالدبابات والجرافات؛ فلا يسلم منه إنسان أو شجرة أو تراب إضافة إلى الماء الذي سرقه والهواء الذي لوثه.

لقد تحطمت تايتانك بفضل الغرور وفائض الثقة لدى من صنعها ومن قادها في عرض المحيط، والغرور والثقة المبالغ فيهما لدى رواد المشروع الصهيوني أنساهم كل شيء.. بدءا من جبل الجليد الأشبه بكمين في عمق الماء إلى جبل المغناطيس الذي يستدرج الرعاة وما سرقوه من الماشية كي يموتوا على سفوحه وقبل بلوغ القمة.

لن نذهب بعيدا في سجال الحكايات وترميز الصراع لأنه الآن لا يقبل الترميز أو الاختزال، فثمة سارق في عز ظهيرة التاريخ وثمة في المقابل مسروق دفعه الشتات إلى مختلف المنافي على امتداد هذا الكوكب.

لم يكن الاستدراك ممكنا بالنسبة إلى تلك الباخرة ولم تكن أيضا قوارب الإنقاذ تكفي؛ لهذا انتهت إلى حكاية بل أمثولة، وجرف تيار الماء قبطانها وهذا الشعور الذي بدأ يتنامى لدى الكتّاب اليهود حول العزلة، وما توقظه به الذاكرة من “فوبيا الغيتو” سوف يتزايد، وأول دليل على ذلك ما فعله نتنياهو عشية عودته منكسرا ووحيدًا إلى (تل أبيب) بعد أن سمع بأذنيه التصويت لمصلحة فلسطين.. إن الاحتلال الآن محاصر بجبال جليد وجبال مغناطيس وليس لديه من قوارب النجاة ما يكفي.

البث المباشر