عدنان ابو عامر
تجمع دوائر صنع القرار (الإسرائيلي) على أن ما حدث لعلاقاتها الإقليمية والدولية مؤخراً يعكس ما تسميه "التطور الإستراتيجي الجوهري"، بعدما اتضح جلياً أن الأمر لا يتعلق "بخريف إسلامي" فحسب، وإنما ينذر بتغيير عميق يحدث حول (إسرائيل)، وقريباً يتوقع أن تقف العلاقات مع الفلسطينيين أمام اختبار حقيقي بعد توجههم إلى الأمم المتحدة، فضلاً عن انخفاض قوة الولايات المتحدة، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، ودخولها في مشاكل داخلية وعراقيل خارجية.
العلاقات الإقليمية والدولية
في المقابل، تحيا (تل أبيب) وسط بيئة إستراتيجية أقل ما يمكن وصفها بأنها "تزداد ضيقاً يوماً بعد يوم"، تضاف إلى جملة التحديات الأمنية والسياسية والعسكرية التي تواجهها، بعدما وصلت عملية التسوية إلى أفق مسدود بسبب تباعد المواقف بين طرفي المفاوضات. ورغم الردع (الإسرائيلي) في المجال العسكري فإن خصومها في غزة ولبنان يزدادون قوة وتعاظماً من الناحية العسكرية، فضلاً عن تحدي نزع الشرعية عنها إثر الاحتجاج الدولي عقب حرب غزة، وأحداث أسطول الحرية.
المعضلة التي تواجه مراكز البحث والتقديرات الإستراتيجية في (تل أبيب) التي تعيش "ورشة عمل" مكثفة على مدار الساعة، تتمثل في عجز (إسرائيل) عن السيطرة على التطورات العالمية والإقليمية، وغياب الرد الملائم من قبل المؤسسة السياسية على هذه التطورات، بعدما اتسم أداء قيادتها السياسية بردات الفعل، واختارت تأجيل القرارات المصيرية، واقتصر أداؤها على امتصاص الضغط الدولي من خلال خطوات جزئية.
وربما ما يزيد في ورطة (إسرائيل) الإقليمية والدولية، أن الضرورة الماسة لتحسين صورتها ومكانتها، يجعل نخبها السياسية والفكرية منقسمة بين رؤيتين:
الأولى- ترى أن السعي لتحقيق اتفاقات يمثل مصلحة (إسرائيلية)، والامتناع عن ذلك سيكلفها أثماناً باهظة في المستقبل.
الثانية- تخشى أن تؤدي التسوية إلى أخطار أمنية متوقعة، فضلاً عن عدم ثقتها بالطرف الآخر وقدراته على تأدية دوره في تنفيذ الاتفاقات.
الوظيفة الغربية
الضلع الثاني من أضلاع الأزمة الإستراتيجية لـ(إسرائيل) إقليمياً ودولياً، يتمثل في شعورها بفقدان الدور والوظيفة المناطة بها منذ تأسيسها، لاسيما بالنسبة للغرب، وقد تمثل ذلك في ما عرضته شعبة التخطيط في هيئة الأركان العامة للجيش (الإسرائيلي)، من تقديرات متشائمة للأوضاع السياسية والأمنية بشكل استثنائي، بل إنها تعتقد بأن العام القادم سيشهد تفاقماً لبيئتها الإستراتيجية بشكل خطير، مما سيجعلها تقف في وضع إستراتيجي بالغ الصعوبة أكثر من الوضع الحالي، لا سيما إذا ارتبط الأمر بصورة وثيقة بما يسمى "تآكل" المواقف الأميركية في الساحة العالمية، مما سيجعل من قدرتها على استقرار الشرق الأوسط مقيدة مقارنة بالماضي.
ولمحاولة استدراك تراجع الوظيفة الغربية للدولة (الإسرائيلية)، تطالب تلك الأوساط صناع القرار بالتصدي للتحديات العسكرية والسياسية المناطقية، وللتآكل في أساس قوة ردعها، لأن ذلك سيتركها فترة من الزمن تقف في انتظار الحسم في مواضيع سياسية وأمنية جوهرية، وسيكون لها تأثير حتمي على الحلبة السياسية الداخلية والخارجية، فـ(إسرائيل) موجودة في وضع يمكن لها أن تهتز، وكل جهد لمنع هذه الاهتزازات سيكون منوطاً بثمن دبلوماسي، وبصعوبة في استيعاب التحديات الأمنية.
على الصعيد الخارجي، تعيش (إسرائيل) فترة تتميز بتفاقم سريع للتهديدات الأمنية والسياسية المحدقة بها، وتدهور وضعها الإستراتيجي في الفترة الأخيرة، حصل -في جزء منه- عقب تطورات الشرق الأوسط والساحة العالمية، والمثير في الأمر هذه المرة أن لها سيطرة محدودة فقط على حجمها وآثارها. كما حصل في جزء آخر نتيجة غياب رد ملائم من مؤسستها السياسية على هذه التطورات، ذلك أن الحكومة امتنعت عن بلورة سياسة متوالية ذات أهداف واضحة تتصل بهذه المشاكل، لذلك فإنها تجد نفسها عالقة في وضع لا تملك فيه ردوداً على أكثر التحديات التي تؤثر على مكانتها السياسية، ووضعها الأمني في السنوات المقبلة.
وربما ما يزيد الأمور تعقيداً وسواداً لدى مراكز التفكير (الإسرائيلية)، ما تشهده العلاقات مع واشنطن من أزمة غير مسبوقة في حدّتها حول جملة من المواقف، لعل أهمها الصراع مع الفلسطينيين. ولئن قرأ الرئيس الأميركي أمام الأمم المتحدة خطاباً أرسل إليه عبر الفاكس من مكتب رئيس الحكومة (الإسرائيلية)، كناية عن مدى "صهيونيته" وتبنيه للرواية (الإسرائيلية)، فإن ذلك لا يمنع من القول إن الرجل ألقاه "مضطراً"، وهو مقدم على سنة انتخابية حاسمة، فهو يقيم في واشنطن وعينه على (تل أبيب)، وجميع المؤشرات تقطع بما لا يدع مجالاً للشك أن شرخاً أصاب "الحليفين الإستراتيجيين"!
ومع ذلك، لا يبدو أن "شهر العسل" بين الرجلين سيستمر طويلاً، بل سرعان ما سينقضي، والتخوف (الإسرائيلي) أن تصل العلاقات إلى مرحلة من "الطلاق البائن"، في ضوء أن الأزمة الحالية بين الولايات المتّحدة و(إسرائيل) لا تتلخص في الفوارق السياسية العميقة القائمة بين رئيس حكومة (إسرائيلي) محافظ ورئيس أميركي إصلاحي، بل في الاختلاف العميق في وضع البلدين، على النحو التالي:
1- تعاني الولايات المتّحدة من أزمة اقتصادية شديدة تؤثر على مكانتها كدولة عظمى وحيدة في العالم، بعدما وصل الاقتصاد الأميركي إلى شفا الهاوية.
2- الولايات المتحدة متورطة في العراق ولا تدري سبيلا للخلاص، رغم أحاديث الانسحابات المتوقعة.
3- الجبهة المفتوحة ضد القوى الإسلامية المعادية لها والممتدة على طول آسيا وأفريقيا، وتضم باكستان وإيران واليمن والعراق والصومال.
في المقابل، يعيش رئيس الحكومة (الإسرائيلية) نتنياهو بخلافه في عالم آخر، لأن الحربين الأخيرتين اللتين شنتهما حكومة "أولمرت" السابقة ضد لبنان وغزة، منحته الهدوء على الجبهتين الشمالية والجنوبية، وما بقي عليه سوى معالجة المشاكل التي خلفتها الحربان، ولكن لا يمكن المقارنة بين أضرارهما وبين الخسائر التي تتكبدها أميركا يومياً في تلك الجبهات.
تحديات قائمة
ما تقدم ليس نهاية المطاف بالنسبة لـ(إسرائيل)، لأن مصر الرسمية "عاجزة" عن فرض سيطرتها على الشارع، وتركيا تعمق الشرخ في علاقاتها معها، وإيران تجري بخطى متسارعة لاستكمال برنامجها النووي، وسوريا منشغلة في أتون أوضاع مشتعلة.. كل ذلك يجعل (إسرائيل) تعيش عزلة تستدعي دق ناقوس الخطر.
فضلاً عن ذلك، فإن جمود المسار السياسي، وانتقاد دور (إسرائيل) في هذا الجمود من جانب شركائها، وبينهم أصدقاء بارزون لها، سرَّع من مسار نزع الشرعية عنها في الساحة الدولية، حتى إن الحكومات الصديقة لها تجد صعوبة في مواجهة كراهيتها في الرأي العام لدولها، في ضوء أن مساراتها العسكرية في السنوات الأخيرة -وعلى نحو أساسي حربا لبنان وغزة- أدت إلى تفاقم الانتقادات ضدها.
وقد جاء تقرير غولدستون والتعامل الدولي معه ليعبّر جيداً عن هذا الجو، كما أسهم الاحتكاك مع الولايات المتحدة -على خلفية السياسة (الإسرائيلية) في الساحة الفلسطينية- إسهاماً كبيراً في مسار نزع الشرعية، وهي حليفتها المقربة وراعيتها، مما أزال القيود وأعطى الضوء لمهاجمتها بدون كوابح.
على الصعيد الإقليمي، يبرز تقوض العلاقات مع تركيا، لا سيما مع ضعف نفوذ الجيش على المؤسسة السياسية، ووضع صعوبات أمام (إسرائيل) في مواجهة تعزز القوى الإسلامية هناك بأدوات جيدة، تخفف من بؤر التوتر، مما يؤكد بصورة قاطعة وجود دلالات شديدة للعزلة المتزايدة لها في الحلبتين الإقليمية والدولية، لا سيما أنها ستجعل من الصعب عليها أن تتصدى وحدها -بدون تعاون وتنسيق دولي- للتحديات التي تواجهها، بعدما كانت تعتبر أنقرة رأس حربة لها في الفضاء الإقليمي.
أما عن إيران، فإن القراءة السائدة في (إسرائيل) اليوم -والتي ترتفع بوتيرة متزايدة- أنها تتقدم في مشروعها النووي من دون عراقيل فعلية، وتواصل مراكمة المادة الانشطارية بمستوى تخصيب منخفض، وتنتقل إلى المرحلة التالية من التخصيب. وكل طريقة عمل لوقف المشروع يدرسها صناع القرار في (إسرائيل)، لكنها تتطلب تعاوناً مع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن (إسرائيل) قادرة على تنفيذ هجوم جوي على إيران دون تعاون أميركي كما فعلت في العراق عام 1981، فإن إنجازات مثل هذا الهجوم ستكون أقل بسبب الأمد الأبعد، والصعوبات في تنفيذ أكثر من موجة هجومية واحدة، وتوزيع المشروع النووي الإيراني، كما أن أثمان الهجوم -لا سيما بالمفاهيم السياسية- ستكون أكبر.. لهذا السبب ستجد (إسرائيل) صعوبة في مهاجمة إيران دون ضوء أخضر -أو الأقل ضوء أصفر- من جانب الولايات المتحدة، ودون التقدير بأن الأثمان السياسية للعملية يمكن تحملها.
أخيراً، على الصعيد الحدودي مع لبنان وغزة، لم يجد التوتر الأمني بين الجانبين له تعبيراً حقيقياً وخطيراً، نتيجة تعزز الردع (الإسرائيلي) من جهة، ومن جهة أخرى، نتيجة اعتبارات داخلية لحزب الله وحماس على حد سواء، تبلورت عقب الحربين على لبنان عام 2006 وعلى غزة عام 2009، بعدما تلقيا ضربات شديدة خلالهما، وتخشيان أن جولة جديدة مع (إسرائيل) ستجعل الوضع يزداد صعوبة لديهما.
ومع ذلك، استغلت المنظمتان ذلك الهدوء النسبي لتعزيز قدراتهما العسكرية وزيادة مخزونهما من السلاح، وتتقدمان في امتلاك قدرات على إطلاق مقذوفات صاروخية، وربما صواريخ إلى عمق (إسرائيل)، لكن ذلك كله لا يقدم ضمانة أكيدة على أن الهدوء سيكون سيد الموقف لفترة زمنية طويلة، لأن الجانبين قد يشعران في لحظة ما أن جولة إضافية ستكون جدواها أكثر من خسائرها.
كل ذلك يوصل إلى قناعة تسود أروقة صنع القرار في (تل أبيب)، مفادها أن الوضع الراهن هو الخيار الأفضل بالنسبة لها، لمنحها فرصة لتركيز الجهود من أجل تحسين وضعها ومكانتها الإقليمية والدولية، ويمنع حصول تدهور إضافي.