غزة- فادي الحسني
مشى التسعيني ابو هلال جرادات الهوينا متكأ على عكازه الخشبي، منتقلاً من محافظة جنين- شمال الضفة الغربية، إلى الأردن ومن ثم إلى جمهورية مصر العربية، وصولاً إلى قطاع غزة لاحتضان نجله "هلال" الأسير المحرر في اطار صفقة تبادل الأسرى.
ولم يكد الحاج أبو هلال يصدق أنه سيضم نجله الأسير- منذ 25 عاماً- إلى صدره، ولما حاضنه بشغف وحرارة بلل الدمع لحيته البيضاء التي تتوسط صدره، واخذ الأسير يقبل رأس والده المغطى بالشال الأبيض والعقال.
يحتضن التسعيني نجله كما لو كان طفلاً ويقول :"إن العمر مر ثقيلاً جداً حتى رأى هلال؛ بعد ان كان قد فقد الامل في الإفراج عنه".
واضاف والدمع متحجراً في مقلتيه "انتظره كثيرا، فقد اشتريت له ارضاً واحتفظت بمكتبته ورسائله طويلاً، وكنت اتمنى أن اراه عريساً، والحمد لله الذي اتم الصفقة وقدر لي أن اره بعيداً الشبك جدران الزجاج" وهو ما فيه اشارة إلى أن الزيارات التي كانت تسمح بها ادارة السجون الإسرائيلية لذوي الاسرى -على قلتها- كانت تتم عبر الحواجز الزجاجية والشبك.
ويقيم الحاج أبو هلال مع أبنه في غرفة داخل فندق "المشتل" الذي يبعد نحو 6 كيلو مترات عن معبر بيت حانون الذي يفصل غزة عن الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948.
واستغرقت جولة ابو هلال يومين متتاليين ليحل ضيفاً على نجله الذي اسرته اسرائيل على خلفية قتله إسرائيلياً بالقرب من سجن ماجدو في سبتمبر 1987، وقال: "تهون المشقة كرمال رؤية هلال".
واقدمت اسرائيل على نسف بيت هلال بعد يومين من اعتقاله، الأمر الذي سبب له الحسرة والاسى، وقال :"ان نسف البيت بأكمله كان له الاثر السلبي على نفسيتي وبخاصة انه يمثل حصيلة كد ولدي وشقاءه".
بيد أن والده صاحب الوجه المجعد قال وهو يربت على كتف ابنه: "كنت قد اعددت له شقة خاصة في ذاك البيت لأحقق لوالدته التي توفيت قبل اعتقاله بـ22 يوماً امنيتها بأن ازوجه، ولكن مضى خمسة وعشرون عاماً دون ان افرح به!".
ويتطلع الوالد الذي قضى اكثر من نصف عمره يعمل في النسيج، العودة إلى بلدة اليامون – قضاء جنين شمال الضفة الغربية، برفقة نجله الذي ابعده الاحتلال إلى غزة بموجب صفقة التبادل التي افرج في المرحلة الاولى منها عن 477 أسيراً من اصل 1027 أسيراً.
وسيضطر الحاج ابو هلال لمغادرة القطاع عائداً أدراجه إلى الضفة المحتلة، مخلفاً نجله وحيداً في غزة، وقال بصوت اجش إنه لا يستطيع المكوث كثيرا في غزة لأنه يعاني من مرض ضغط الدم و"السكري" إضافة إلى أنه ترك زوجته المريضة وحدها.
وقد خيم على وجهه الحزن، فقال :"ان شاء القدر سنلتقي مجدداً". معبراً عن أسفه ازاء اقدام الاحتلال على ابعاد ابنه المحرر عن قريته وأهله.
ومعظم مبدعي الضفة الغربية والقدس إلى قطاع غزة ظلت مدة ابعادهم مجهولة، لكن المحرر جرادات ابعاده مفتوح (أي غير محكوم بسقف زمني).
والمحرر جرادات هو واحد من الأسرى المنتمين إلى حركة فتح، وقد حرمته ادارة السجون من اكمال تعليمه في جامعة "تل ابيب"، لكنه قاله انه استطاع ان يثقف نفسه ويدرس اللغات المختلفة.
ولم يزل يجهل المحرر جرادات شخصية اقرانه وأبناء أشقاءه وشقيقاته وأصهاره، ويشير إلى أن ادارة سجن "عسقلان" كانت تمنعهم من الدخول لزيارته.
ولفت إلى أنه ألتقى بشقيقه خليل الذي يكبره سناً –والمتواجد في غزة الآن لزيارته- وأقام معه في غرفة واحدة داخل سجن عسقلان لمدة 13 شهراً متتالية، وقال :"هذه اطول مدة رأيت فيها شقيقي، وبعد أن أفرج عنه قبل نحو عشرين عاماً عدت وحيداً".
وجّد المحرر جرادات –كما أخبر والده- كان قد سقط شهيداً في معركة "أجزم" عام 1936، وانظم على أثره الحاج أبو هلال لدار الأيتام آنذاك، ويقول "إن حياة الفلسطينيين كلها بؤس وشقاء وحرمان".
ومن المقرر أن يعود المحرر جرادات وحيداً بعد أن يغادر ولده وشقيقيه الذين جاؤوا لاستقباله في غزة، ليظل غريباً في وطنه حتى بعد انكسار القيد.