أ. يوسف علي فرحات
إن سنة الله (عز وجل) في خلقه للكون والحياة: التكامل والتوازن، وقد خلق (جل وعلا) الإنسان في أحسن تقويم، وجعله يحوي جوانب كثيرة مختلفة: عقلاً، وروحاً، وجسداً، وعواطف، ومشاعر، ولكلٍّ منها حق، ولا يمكن الوفاء بكل حقوقها إلا بتوازن يكمِّلها جميعاً، ولا يغلِّب جانباً منها على حساب جانب آخر.
وذلك التوازن هو: الوسطية التي جاء بها الإسلام، حيث إنه منهج وسط للأمة الوسط وهو يمثل ( الصراط المستقيم ) في كل مجال من المجالات ويجسد التوازن في كل شئ : في العقيدة ، وفي العبادة ، وفي الأخلاق ، وفي المعاملات والتشريعات كلها ، بعيداً عن الغلو والتفريط .
كما أن الإعراض عن الوسطية هو الهلاك بعينه والضياع في الدين والدنيا معاً ، سواء كان الإعراض بالتسيب والانفلات كإضاعة الصلوات واتباع الشهوات ، والسير في ركاب شياطين الإنس والجن ، أم كان الإعراض عن الوسطية جنوحاً إلى جانب الغلو والتنطع والتشدد ، وهو جانب الإفراط أو التطرف ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه سبب الهلاك للأمة ، عندما قال : " إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " [ صحيح الجامع الصغير رقم (268) ] . وقال أيضاً : " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً [ رواه مسلم ] وهو لا يكرر الكلمة إلا لعظم خطر مضمونها . والمتنطعون : هم المتشددون المتعمقون المبالغون في التزامهم بالدين بما يخرجهم عن الحد الوسط .
والخير كل الخير في التوسط والتوازن بين الغلو والتقصير أو بين الإفراط والتفريط أو بين (الطغيان والإخسار) على حد تعبير القرآن الكريم : ﴿ والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَع المِيزَانَ * أَلاَّ تَطغَوا في الميزان * وأقيموا الوَزنَ بالقسط ولا تخسروا الميزان ﴾ .
والطغيان : تجاوز حد الوسط ، إلى جانب الغلو والإفراط ، والإخسار : هو تجاوزه إلى جانب التقصير والتفريط.
** حتى نفهم الوسطية
لا تخرج معاني الوسطية عن: العدل والفضل والخيرية، والنِّصف والبينية، والتوسط بين طرفين، فقد استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (الوسط) أرادوا معاني: الخير والعدل والنّصَفَة، والجودة والرفعة والمكانة العالية.
ولا يصح إطلاق مصطلح (الوسطية) على أمر إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1- الخيرية، أو ما يدل عليها.
2- البينية، سواء أكانت حسية أو معنوية.
كما يقصد بالتوازن في الشريعة الإسلامية: النظر في كل الجوانب، وعدم طغيان جانب على آخر، وذلك باجتناب الغلو والجفاء..
ولا بد من فهم حقيقة هذين الأمرين؛ لتفهم حقيقة الوسطية والتوازن، فإنه لا يمكن تحقيقها إلا بعد الفهم السليم لها.
** ملامح الفكر الوسطي ومعالمه
وتحديد ذلك ضروري؛ لتتميز الوسطية عن غيرها، ولئلا تكون مجالاً لأصحاب الأهواء والشهوات، ومن تلك الملامح:
1- الخيرية: وهي تحقيق الإيمان الشامل، يحوطه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- الاستقامة: وهي لزوم المنهج المستقيم بلا انحراف، فالوسطية لا تعني التنازل أو التميع أبداً.
3- البينية: وذلك واضح في كل أبواب الدين، فالصراط المستقيم بين صراطي المغضوب عليهم والضالين.
4- التيسير والتبشير: وهي سمة لازمة للوسطية ، فالتيسير في الفقه والفتوى ، والتبشير في الدعوة والتوجيه . كما أن التيسير يكون في الفروع ، بينما يكون التشدد في الأصول
5- العدل والحكمة: وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسط بالعدل وذلك هو معنى الخيار؛ وذلك لأن خيار الناس: عدولهم.
6- الجمع بين السلفية والتجديد : والسلفية تعني العودة للأصول أي الكتاب والسنة . والتجديد يعني : المعايشة للعصر والمواكبة للتطور والتحرر من إسار الجمود والتقليد .
7- الاعتدال بين الظاهرية والمؤولة : فمن معالم الوسطية : الاعتدال والتوازن بين الجمود على ظاهر النص من ناحية ، والتوسع في التأويل من ناحية أخرى بلا مسوغ ، ولا ضابط .
8- مراعاة الواقع : والوسطية تراعي الواقع المعيش ولا تغفل عنه سواء في عرض الدعوة الإسلامية والخطاب الديني للمسلمين وغير المسلمين ، بحيث يهتم بما يقنع عقولهم وينير قلوبهم ويحل مشاكلهم ، ولا يسبح بهم في الماضي بعيداً عن الحاضر ، ولا المثاليات الحالمة بعيداً عن الواقع .
وكما قال ابن القيم : الفقيه الحق يزاوج بين الواقع والواجب ، فلا يعيش فيما يجب أن يكون ، مغفلاً ما هو كائن .
9- الدعوة للتسامح والتعايش مع الآخرين : فالوسطية ترفض العنف وتدعو للتعايش مع الآخرين ممن يخالفون في العقيدة أو في المنهج ، كما تدعو لإقامة جسور الحوار معهم على اختلاف طوائفهم واتجاهاتهم .
10- إنصاف المرأة باعتبارها شقيقة الرجل: والفكر الوسطي في الإسلام يدعو يقف بجانب المرأة ضد تيارين مرفوضين الأول : التيار المتشدد حيث ينظر للمرأة نظرة سوداوية ويتعامل مها بريبة ويريد أن يحبسها ويحرمها حقوقها . والتيار الثاني : تيار التبعية للغرب والحضارة الغربية للمعاصرة والتي تنظر للمرأة وكأنها مجرد جسد وتعاملها كأنها رجل ناسية أنها إنسان له روح وجسد وأنها ليست رجلاً وإنما هي شقيقة الرجل .
فمن واجب المجتمع المسلم حماية المرأة من تقاليد الشرق الموروثة من عهود التراجع الإسلامي ، ومن تقاليد الغرب الوافدة ، التي تريد أن تسلخ المرأة من دينها وأصالتها .
** نحو تربية متكاملة متوازنة
إن التربية التي نحتاجها اليوم هي التي تأخذ الإسلام جملة وتفصيلاً، وتراعي شخصية الفرد بجميع جوانبها وأبعادها، مع التوازن في تربية الجوانب المختلفة: العقلية، والمعرفية، والوجدانية، كما توازن أيضاً في رعاية الجانب الواحد، كالجانب العقلي مثلاً، وهذا بالنسبة للفرد.
وعلى صعيد المجتمع: ينبغي ألا تكون التربية نخبوية تخص فئة من الناس دون غيرهم، وتهمل بقية الفئات، كما ينبغي أن تتكامل كل المؤسسات التربوية وتتظافر جهودها، وأن تتكامل الجهود داخل المؤسسة التربوية الواحدة، وكذلك أن تتكامل في استخدام الوسائل التربوية.
ومما يعين على ذلك: التفكير، والتخطيط، والترتيب للعملية التربوية، ووضع الأهداف الواضحة المنضبطة بالضوابط الشرعية مع المراجعة المستمرة؛ لتلافي الأخطاء، وألا تكون التربية مجرد استجابة لردود الأفعال.
ومما يجب التنبه له: أن التوازن والتكامل لا يعني أن يحمل كل شخص قدراً متساوياً من كل جانب؛ وذلك لاختلاف الأشخاص في القدرات والمواهب، ولحاجة الأمة إلى أبواب كثيرة تستدعي أن تُعنى بكل جانب فئةٌ من الفئات، كما لا يعني التوازن: ترك التخصص .
وجدير بالذكر: أن فهم الوسطية تزول به إشكالات كثيرة، يكثر السؤال عنها -بسبب عدم فهم الوسطية- كالتوفيق بين: العلم، والعبادة، والدعوة، والجهاد... إلخ.