غزة- عدنان نصر
عاد الصبي محمود (14 عاما)، بعد ظهيرة ساخنة غلت الدم في عروقه وعلى ظهره "شوالا" بداخله قطع بلاستيكية جمعها منذ الصباح.
علامات الإرهاق والعرق الذي تصبب من وجنتيه كشفت عن ضيق حال أسرته، لذلك لم يجد بديلا عن تلك المهنة لمساعدة والده في نفقات المنزل.
ويجمع محمود العبوات البلاستيكية من الشوارع والنفايات ثم يكدسها فوق سطح منزله منتظرا ارتفاع أسعارها من جديد ، لاسيما بعد الشائعات التي أدت إلى انخفاضها.
وكانت وزارة الاقتصاد الوطني قامت بحملة تفتيش الأسابيع الماضية على مصانع البلاستيك، وأصحاب المجارش التي تعيد تدوير البلاستيك " إعادة جرشه وصناعته" في الاستخدام الآدمي كالأطباق والصواني وجالونات الشراب"؛ بدعوى أنها تؤدي إلى أمراض خطيرة. وطالبت الوزارة أرباب المصانع استخدام المادة الخامة الأصلية "ستاندر" في صناعة الأواني المنزلية للحد من تلك المخاطر.
"الرسالة" حملت التحذيرات على محمل الجد ونقلتها لأصحاب الاختصاص لمعرفة هل هل إشاعات أم أزمة حقيقية.
شائعات
وتناقل أصحاب المصانع والمجارش معلومات تفيد بوجود قطع بلاستيكية يمكن أن تسبب السرطان بعد جرشها ، لذلك منعت الوزارة صناعتها في الاستخدام الآدمي.
يشار إلى أن قطاع غزة يعيش كارثة كبرى نتيجة منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المواد الخام لإنتاج المواد البلاستيكية اللازمة للاستخدام الآدمي منذ بداية الحصار، ما دفع أصحاب المصانع إلى إعادة تدوير البلاستيك وصناعته من جديد، وتهريب بعض المواد الخام من الأنفاق بسعر يضاهي أربعة أضعاف المعاد تدويره.
حدة الأزمة ألقت بظلالها على المواطن أبو أسعد، ففناء محله الواسع خاو على عروشه، وقلة الطلب على القطع البلاستيكية خفض سعرها إلى النصف- حسبما يقول.
ويشير أبو أسعد الذي يقوم بشراء البلاستيك من جامعي الخردة إلى أن أسعار القطع البلاستيكية تتراوح حسب ألوانها، فاللون الأبيض أغلى سعرا؛ لاستخدامه في صناعات متنوعة، ويستعمل اللون الأسود في صناعة "الخراطيم الكهربائية"، بينما تستخدم باقي الألوان في صناعة الأواني المنزلية ، منوها أن هناك أصنافا لا يمكن تصنيعها من تلك البدائل كأطباق الوجبات الجاهزة والأكواب والأكياس البلاستيكية الشفافة؛ لأنها تحتاج الى مواد خام خاصة يتم استيرادها من "إسرائيل" أو مصر.
أبو أسعد الذي شارف على عقده الثالث لا يخفي أن هناك قطعا بلاستيكية يمكن أن تسبب مواد مسرطنة عند جرشها مثل " بطاريات السيارات، وعبوات المبيدات الحشرية؛ لاحتوائها على مادة الرصاص ومواد كيميائية، لافتا إلى أن أصحاب المصانع ليس لهم علاقة بتلك المسألة، فمن يقوم بجرشها وبيعها على أنها الخامة المطلوبة يتحمل تلك المسئولية- على حد قوله.
يشار إلى أن نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل لجأت إلى جمع الأواني البلاستيكية بعد أن أصبحت بديلا للمواد الخام؛ وانخرط العديد منهم في مجال جرشها وبيعها لمصانع البلاستيك في ظل غلاء المواد الواردة عبر الأنفاق.
أزمة قديمة
الشائعات لم تخمد رحى مجارش البلاستيك الصاخبة، ففي إحدى المناطق النائية بمدينة غزة علا هدير مجرشة المواطن أبو محمد الذي أصبح لديه خبرة واسعة في مجال البلاستيك بعد أن عزف عن مهنته الأصلية منذ خمسة أعوام.
أبو محمد الذي رفض الكشف عن هويته لا يختلف مع سابقه في روايته الأخيرة "جرش المواد المحظورة" ، وألقى بتلك التهمة على عاتق أصحاب مجارش البلاستيك في جنوب القطاع، بدعوى أنهم يجمعون قطع البلاستيك من مكبات النفايات، ما يبقي رائحتها الكريهة عالقة في البلاستيك بعد طحنه وتنظيفه .
و يتضح من تلك المعطيات أن بعض أصحاب المجارش تورطوا في تصنيف البلاستيك بعد جرشه، وقاموا بخلط مجروش مواد محظورة كعبوات المبيدات الزراعية والأدوية الطبية بدلا من حرقها وفق آلية الجرش التي سمحت بها الوزارة، والتي تقتضي جرش كل صنف على حدة وتخزينه في شوالات توضع عليها علامات دالة.
حال أبو محمد لم يتأثر رغم زوبعة الشائعات، فصوت مجرشته طغى على حديثه "للرسالة" متسائلا عن عدم إجراء الجهات المعنية الفحوصات اللازمة لتقطع الشك باليقين حول قضية لأمراض التي يمكن أن تسببها المواد المجروشة.
ويشير أبو محمد إلى أن العبوات البلاستكية تخضع لعدة مراحل في تنظيفها واستخلاص الشوائب والأتربة؛ بحيث من الصعب بقاء أوساخ عالقة بعد عملية جرشها .
وتتلخص عملية تنظيف وتجهيز القطع البلاستيكية لصناعة الأواني البلاستكية وخراطيم المياه الزراعية والكهربائية بتخميرها في حوض مياه راكدة، ثم تخميرها بالصودا الكاوية لمدة ست ساعات، وبعد ذلك تطهيرها بمادة الكلور، وإعادة غسلها بالمياه، بالإضافة الى تنشيفها عبر جهاز منشف حراري بدرجة حرارة معينة ثم توضع داخل فرن تصل درجة حرارته إلى 1000 درجة مئوية، فتنصهر المواد البلاستيكية، وتقتل الجراثيم- حسبما يشير أبو محمد.
وُتميز المواد البلاستيكية المعاد تدويرها بقطع شفافة صغيرة مربعة الشكل، بينما المواد الخام الأصلية تميز بحبيبات عدسية شفافة.
ويقول أبو محمد بلهجة واثقة: "بدائل المواد الخام المتواجدة في غزة تغني عن المواد الأصلية فجودتها جيدة، ويمكن استخدامها للاستعمال الآدمي إذا نظفت وفق الخطوات السابقة، مشيرا إلى أن دول العالم تقوم بتدوير البلاستيك.
ويصل سعر طن البلاستيك المجروش إلى 3200 شيكل، أما الوارد عبر الأنفاق فثمنه 12000 شيكل، لذلك يرغب أصحاب المصانع في تلك المواد المعاد تكريرها.
وبحسب تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد- فإن الصناع يستخدمون البلاستيك "المجروش" كمادة خام، وبلغت نسبة المنتجات التي يستخدم فيها البلاستيك المجروش كمادة خام حوالي 90%، والنسبة المتبقية تسخدم مواد خام أصلية في صناعتها.
فحوصات مخبرية
وعقدت وزارة الاقتصاد الوطني اجتماعا مطلع الشهر الجاري لوضع آلية رقابة وتفتيش على أصحاب المصانع والمجارش البلاستيكية بحضور عدد من المسئولين وأرباب المصانع.
ويشير د. فؤاد الجماصي مدير دائرة صحة البئية في وزارة الصحة إلى أن استخدام البلاستيك المعاد تصنيعه يؤدي إلى ظهور بعض الأضرار والأمراض ، مشيرا إلى ضرورة أن يهتم أصحاب المصانع بكل شيء يدخل في صناعات الاستخدام الآدمي .
وان كان الجماصي يؤكد إمكانية فحص البلاستيك المعاد تدويره في المختبرات الجامعية والتحقق إن كان يؤدي لأمراض خطيرة - فان زياد أبو شقرة مسئول المختبرات في الوزارة يقول أنه لا توجد قدرات وإمكانيات كافية لعملية الفحص وذلك لعدم وجود الأجهزة والاختبارات اللازمة لفحص المنتجات البلاستيكية في قطاع غزة.
وبحسب دراسة نشرتها أكاديمية العلوم الأمريكية فإن عملية إعادة تصنيع البلاستيك في التصنيع الغذائي عملية خطرة لأن العبوة نفسها معرضة أن تصبح أكثر خطورة على صحة الإنسان من خلال مركبات العبوة البتروكميائية التي تنتقل للغذاء المعبأ بها، لتحدث تراكما شديدا مع مرور الوقت تصل لدرجة التسمم، أو إتلاف الأعضاء الداخلية للكائن الحي.
ونوه أبو شقرة أنه لا يوجد في الوزارة معاملات ومخالفات لأصحاب المصانع والمجارش في حال استخدامهم للبلاستيك المعاد تصنيعه، مؤكدا على ضرورة إيجاد السبل القانونية لردع المخالفين للآليات المتبعة من قبل الجهات المختصة.
ويوافقه في ذلك د. أيمن عابد مدير عام إدارة الموازين في وزارة الاقتصاد قائلا: لا يجوز من ناحية صحية استخدام البلاستيك المعاد تدويره في صناعة الأدوات المنزلية، لافتا أن وزارته سمحت باستخدامه في صناعة ما يتعلق بأمور الصرف الصحي والخراطيم الزراعية.
وحذر عابد من مخاطر البلاستيك المجروش الذي يجمع من مكبات النفايات، ويستخدم في صناعة منتجات المواد الغذائية " حفظ أو استخدام "؛ لاحتوائه على آثار مواد سابقة بطبيعتها الخطرة للاستخدام الآدمي مثل المبيدات الحشرية والأدوية الزراعية والأدوية الطبية ، ما يؤدي إلى التسبب في أمراض كثيرة تصيب البشر، بالإضافة إلى إصابة العاملين في هذا المجال بالأمراض الجلدية والصدرية لنقلهم البلاستيك من النفايات بشكل يدوي.
توفير البدائل
ومن اللافت للنظر أن مصانع القطاع تعتمد على إعادة تدوير البلاستك للاستعمال الآدمي منذ بداية الحصار، وحتى اللحظة لم يتسن للجهات المختصة التأكد من صحة إن كانت تلك المواد مسببة لأمراض خطيرة لتضارب التصريحات حول إمكانية فحصها في مختبرات القطاع .
ورغم عدم توفر الإمكانيات لإجراء الفحوصات اللازمة فان التفاؤل يظهر جليا في نبرات عابد الذي يشيد بقدرة الطواقم الفنية بوزارته على التمييز بين المنتجات المصنعة من البلاستيك المدور والمواد الخام.
ويبدي نعيم صالح ممثل اتحاد الصناعات البلاستيكية ارتياحه لخطوة وزارة الاقتصاد الوطني، مشيرا إلى أن جمع البلاستيك من النفايات والشوارع واستخدامه في صناعة الأواني والصواني البلاستيكية أمر مضر للغاية للاستخدام الآدمي وصحة المواطنين.
وقال: " الأدوات التي تستخدم للاستعمال الآدمي يجب منع تصنيعها منعاً باتاً من البلاستيك المعاد تدويره، والتخلص من الكميات الموجودة في المخازن لدى المصانع."
بدوره أوضح منذر سالم من سلطة البيئة دور سلطته في تأدية الدور الرقابي لمتابعة المنتجات والمصانع، حسب الشكاوى التي تصلهم من المواطنين ،مشددا على ضرورة جمع بطاريات السيارات القديمة ووضعها في مكب النفايات الصلبة التابعة لبلدية غزة وذلك باتفاق مسبق مع البلدية للتقليص من وزن هذه البطاريات والتخلص منها.
وبحسب دراسة السابقة- فإن عملية دفن البلاستيك عجزت عن القضاء على المخلفات البلاستيكية لكونها غير قابلة للتحلل وبالتالي تسبب تلوث التربة، كما أن عملية حرق المخلفات البلاستيكية تسبب تلوث هوائي بسبب المواد الكربونية شديدة الضرر المنبعثة من تلك الحرائق التي نتج عنها تصاعد أبخرة غاز "الفوسجين" وحمض الهيدروكلوريك نتيجة حرق عبوات PVC المسببة للتسمم وكذلك تصاعد مركبات الدايوكسين Dioxins الكلورونية شديدة الخطورة.
ويستخدم أصحاب المصانع مجروش البطاريات غالبا في صناعة ألعاب الأطفال، لكن ما أثار جنون وزارة الاقتصاد لجوء بعض المجارش إلى خلطها مع مجروش عبوات الأدوية الزراعية الفارغة في صناعات تخص الاستعمال البشري.
ويؤكد أحد العاملين في المجارش" للرسالة" أن بعض المجارش تقوم بجرش مخلفات طبية كأكياس المحلول والدم واستخدامها في صناعة جالونات الشراب والعلب البلاستيكية.
بالمقابل طالب أصحاب المصانع البلاستيكية من الوزارة بتشكيل لجنة خبراء أكاديميين متخصصين لإيجاد حلول شافية لمشاكلهم، والتأكد عند شراء منتجات بلاستيكية هل هي مصنعة من مواد معاد تصنيعها أو من مواد خام أصلية، مؤكدين على ضرورة أن تتدخل الحكومة في توفير المواد الخام الأصلية التي تمر عبر الأنفاق بأسعار معقولة.
وأكد عابد على ضرورة التنسيق مع وزارة الصحة والبيئة وإعداد قائمة بالمنتجات البلاستيكية المصنعة للاستعمال الآدمي وطرق معالجتها، وتوعية المواطن من خطورة هذا الأمر، ووضع بطاقة البيان على المنتج الفلسطيني.
وقال عابد: سنعمل على توفير المواد الخام بالطرق المتاحة للتخفيف من المخاطر المترتبة، وسنقوم بزيارات ميدانية دورية بالتنسيق مع سلطة البيئة والصحة بالإضافة إلى الإدارة العامة لحماية المستهلك للتفتيش والرقابة على المصانع والمجارش البلاستيكية كل حسب إمكانياته وصلاحيته القانونية.
ودعا المسئولون إلى التنسيق الكامل مع اتحاد المصانع البلاستيكية للمساعدة في فرز المنتجات البلاستيكية للتعامل معها نظرا لغياب الفحص المخبري في قطاع غزة.
وفي ظل تلك الضربات الموجعة التي تواجهها الصناعات الفلسطينية من إغلاق للمعابر، وعدم توافر الخام ، بات الأمل ضعيفا في تحسين صورة المناخ الاستثماري، لا سيما بعد أن أطلقت المصانع دوي صرخاتها ولم تلق مجيب. ويبقى السؤال هل ستستطيع وزارة الاقتصاد توفير المواد الخام بأسعار تناسب أرباب المصانع أم أن الأمور ستعود لسابق عهدها، ونواجه مخاطر صحية في الأواني البلاستيكية التي نستعملها، يبدو أن الأمر بحاجة لرقابة وضبط و جواب شافي من الجهات المسئولة.