قائمة الموقع

أموات ..

2011-11-21T10:26:14+02:00

رشا فرحات

***** بيت آخر

ألقي نظرة أخيرة على بيتي.. مسجاة فوق خشبة عتيقة ذات روائح مختلفة.. ملفوفة كقطعة حلوى بيضاء.. رددت السلام على كل الجالسين، والصارخين، والباكين.. هناك تقف ابنتي جحظت عيناها على النعش السائر بجانبها، ولا تقوى على لفظ كلمات الوداع، وابني يكتم عبراته.. ينظر نظرة خائفة ويحتضن أخته الصغرى بيده الأخرى، وأنا أبكي، وأريد أن أصرخ.. لماذا لا يسمعون صوتي؟.. صوتي يختنق، ويداي تتمددان بجانبي كأني مقيدة إلى تلك الخشبة.. لا شيء يقوى على الحراك..

بداخلي فجوة كبيرة لروح خرجت قبل دقائق.. خرجت من باب البيت، والنعش يسير على أكتاف إخوتي الثلاثة، وزوجي، ونظرة أبي الواقف باكيا.. كلها تعذبني.. أحاول الالتفات إلى الوراء وأصوات صرخاتهم تبتعد، وأنا أدخل من باب جديد.. إنه بيت آخر، وحياة أخرى، وأنظر من نافذة البيت الجديدة.. أراهم من بعيد وقد بدؤوا حياتهم ومسحوا دموعهم، وبدؤوا اللعب، وزوجي خرج إلى عمله مبكرا بعد ثلاثة أيام، والسماء انشق ضوؤها على فجر آخر، وكنت أظن ذلك الصباح لن يشرق.. ببساطة: لم يتغير شيء.

***** أغنية للرحيل

في القفص الحديدي المزين بالأزهار الوردية رقدت، وأنا على باب القفص أحرسها، وقد بدت ملامح إعياء ثقيلة ترسم في عيناها المحمرتين، وتتطاير بعض الريشات الملونة من جناحيها.. هنا -في هذا القفص- تعودت الحياة، ولم تتعود هي، وبينما أنقر أنا حبات القمح كل يوم وأرتشف من ماء البيت السكري الحلو تنام هي منذ دخلت معي إلى حيث مرقدنا لحياة جديدة، وقد أتقنت النوم، وأنا بدأت أغني وحدي لأنسى صوت الغناء، وأرسل لها نغماتي وهي عبر ابتسامتها الوحيدة تعطيني رسالة بالحياة.. اليوم لا رسالة في حياة هذا القفص، والعينان تنزاحان عن النظر إلي، وتنظران إلى السماء.. تحدق في الحياة، ولا حياة في تلك العينان.. مجهولة تلك الأنثى الراقدة بدون ريشها الملون، وأنا أنفخ في الجسد الذي بدأ يبرد شيئا فشيئا حتى خرجت الحياة.. كسرت القفص، وخرجت، حركت جناحاي، وطرت، وتركت صوتي وحده يغني أغنية للرحيل.

***** عودة للحياة

وكسرت حاجز الخوف، وخرجت من باب القبر المعتم إلى الفضاء الرحب.. ركضت سائرا ملفوفا بأغطيتي البيضاء وشبح السكاكين الغادرة تركض ورائي، ورأسي المفصول عن جسدي يعود ليفكر من جديد.. نحو ضوء الشمس أستدل طريقي وحدي: طريق تاهت قدماي فيه قبل الموت قبل سنوات العجز، فأركض إلى حيث الدفء يسري في عروقي فجأة.. تلتئم الجراح.. أقود أمامي قدمين موجوعتين لا تشعران بحرارة الأرض.. أشد زمام القماش الأبيض على الجسد الملطخ بالدماء، وأصوات الغربان تنعق عاليا في الفضاء.. أصل إلى قبورهم أخيرا وقد ساقتني قدماي.. رمالها سوداء.. لا شجرة.. أسمع صرخاتهم، وأرى أيديهم تخرج من بين التراب الجاف.. ترجوني.. تطلب عونا.. أسمع صرخاتهم فتطربني، وتثلج صدري شهقات الثأر.. أوردتهم المقطعة منذ زمن أعرفها، وعقولهم المفرغة من أصوات الحق أعرفها، وصرخاتهم الآن أعرفها، وصوت ضحكاتي يعلو في حين تعود قدماي إلى حيث كانت.

اخبار ذات صلة
أحياء لكن أموات
2011-04-10T12:09:00+03:00