غزة - مها شهوان
"حلمت أن بيدي مفتاحا وسبعة شواقل، وكان تفسير الأول الحرية، والثاني: اعتقال يدوم سبع سنوات".. ذلك الأمل الذي عاشت عليه "هداية" زوج المحرر محمود القواسمي (31 عاما) وابن مدينة الخليل والمحكوم بـ20 عاما ونصف قضى منها كما جاء في حلم زوجِه.
وطوال المقابلة كانت تنظر إليه وكأنها تود أن تكحل عينيها به خشية فقدانها إياه، ولكنه كان يطمئنها بالقول: "لا تقلقي أنا في غزة ولن يصيبني أي مكروه"، وحينئذ فرجت سريرتها وعادت السكينة إليها.
يذكر أن القواسمي اعتقل مرتين: الأولى بداية 2003 لانتمائه لحركة حماس وأفرج عنه في صفقة حزب الله عام 2004، وكما هو معهود على الإسرائيليين الغدر فقد أعادوا اعتقاله مجددا بعد أيام بتهمة الاشتراك في تنفيذ العمليات الاستشهادية "عملية بئر السبع التي جاءت انتقاما لاغتيال القائدين أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي"، وليفرج عنه بصفقة الوفاء للأحرار بعد مضي سبع سنوات.
"الرسالة" زارت المحرر القواسمي حيث يقيم مع زوجه وأولاده في أحد فنادق القطاع ليروي تفاصيل بداية عمله الجهادي، ولاسيما أن دخوله السجن لأول مرة كان نقطة تحول دفعته للعمل العسكري.
***** حفظ القرآن الكريم
جلس القواسمي إلى جانب زوجه وهو يروي تاريخه النضالي، فكانت تنظر إليه وتبتسم وخصوصا حين كان يذكرها ببعض المواقف التي كان يتسلل فيها خلسة في منتصف الليل دون أن يشعرها، ولكنها كانت تبتسم له وترد بلهجتها الخليلية: "كنت أشوفك وأتغاضى".. ليسارع هو بالقول: "ربي يعطيني عشان أقدر أعوضك أنتِ والأولاد".
الحديث عن لحظات الاعتقال والرجوع إلى تلك الذكريات ليس بالشيء الهين لمن عاشوا التجربة، فقد تحدث ضيفنا المبعد إلى مدينة غزة وهو يلتفت حوله ليتأكد أنه فعلا حر طليق.. وقال: "أخي الشهيد مراد كان مطاردا من الاحتلال وللضغط عليه اعتقلوني وإخوتي، وبعد تسعة أيام من سجني قرروا الإفراج عني لكنهم رفضوا في النهاية بعد أن جاءهم خبر ضلوعي في تنفيذ عمليات استشهادية".
وأضاف: "في البداية أصدروا بحقي حكما بالسجن لــ18 مؤبدا لكنه خفف لعشرين عاما ونصف.. وقتئذ سجدت لله شكرا"، موضحا أن الأسير حين يحكم عليه بالسنوات وليس المؤبدات يصبح لديه الأمل بالخروج إلى الدنيا.
وبابتسامة عفوية قاطعته زوجه الحديث لتقول: "عند اعتقال محمود في المرة الأولى كنت حاملا بالشهر السابع، وقد خرج طفلي للدنيا دون رؤية والده، وفي حملي الثاني قال لي وهو يمازحني: حضري حالك بالشهر السابع سأسجن، وفعلا حدث ما قاله".
عاد القواسمي ليذكر أنه حين بشره أحد الأسرى أن زوجه وضعت طفله الثاني وزع حبات البندورة على زملائه تعبيرا عن فرحته، وأوضح أن نبأ استشهاد أخيه كان من أقسى اللحظات التي مرت عليه داخل زنزانته، لافتا إلى أنه عندها أقسم أن يكافئ والدته وزوجه بحفظ القرآن الكريم ونال ما تمناه.
*****زوجه والأسرى
القواسمي تربى في جو عائلي محافظ هيّأه ليكون فدائيا يدافع عن وطنه؛ فقد خرج إلى الدنيا ووجد جده مبتور الأرجل لمشاركته في حرب الـ67، وكذلك اعتقل ثلاثة من أعمامه بالإضافة إلى إخوانه الأكبر منه.
ووفق "ابن الخليل" فإن الاحتلال كان يتفنن في تعذيب عائلته، فقد كان يعتقل والده وجميع إخوته عندما يشن حملات اعتقال في الخليل، مبينا أنهم اجتمعوا مرة واحدة منذ عشرين عاما على مائدة الطعام.
وروى القواسمي أنه عندما اجتمع وجميع إخوته داعب والدته بالقول: "أول مرة نجتمع كلنا من 20 سنة".. حتى سارعت بالقول خشية أن يصيب عائلتها مكروه: "اللفظ سعد يما"، ولكن ما توقعه حدث ولم تمض ساعات إلا وعاد الجيش ليعتقل من في البيت، وحينئذ تمكن ضيفنا وأخوه الشهيد من الفرار.
ووصف تجربة السجن بأنها تقهر وتهد الجبال لمن لا إرادة له، فهو استفاد من القادة الذين التقى بهم أمثال يحيى السنوار ومجدي حماد وتوفيق أبو نعيم وصديقه إياد أبو شخيم، مشيرا إلى أنه تعلم اللغة العبرية داخل السجن ويطمح لنيل شهادة الثانوية لاستكمال دراسته الجامعية.
ولم ينس القواسمي دور زوجه التي ساندته في محنته وتحملت مضايقات الاحتلال طوال السنوات السبعة، فهو منذ نيله الحكم قال لها: "أنت صغيرة ولا أريد أن أظلمك.. بإمكانك التمتع بحياتك"، وعندها ردت عليه: "سأرضى بنصيبي".
ووفق الأسير المحرر فإن رفقاء دربه في السجن كانوا دائما يدعون له ولزوجه التي أمدتهم كثيرا بكل ما يحتاجونه، ولاسيما أنها أول من هربت الهاتف المحمول إلى معتقلهم؛ الأمر الذي جعل جنود الاحتلال يعاقبونها بمنعها من زيارة زوجها لعام كامل.
وذكر أن الهاتف المحمول يعتبر بالنسبة للأسرى الشريان الذي يوصلهم بالخارج ويمدهم بالأمل، حيث روى موقفا لأحد زملائه حين رأى الهاتف وتحدث إلى ذويه: "وقع مغشيا عليه من هول الصدمة كونه لم يتوقع الحديث إليهم بعد سنوات كثيرة أمضاها في سجنه".
****الصفقة وأرض الكتيبة
أما لحظة نيل الحرية فهي حلم يتمناه كل أسير يتجرع مرارة السجان الإسرائيلي، وقد قابل القواسمي نبأ الصفقة بالسجود لله عز وجل، ولكن فرحته لم تدم وباتت منقوصة لعدم شمولها رفقاء الدرب، ويقول: "في البداية شعرت بالفرحة العارمة وبدأت بالتكبير لكن بعد لحظات لُمت نفسي واعتذرت من زملائي الذين لم يكتب لهم الإفراج أمثال الأخوين عثمان وبلال شقيقي المحرر عبادة، والذيْن يستحقا الحرية".
ويضيف: "لم أتذوق طعم النوم طوال الليالي الثلاثة بعد إعلان الصفقة، وقلت في قرارة نفسي لن أفرح إلا عند رؤية أهلي وأبنائي وأن أحتضنهم".
ولفت إلى أنه وعند وصوله لأرض الكتيبة بكى كثيرا، مقسما أن ما شاهده عوضه عن سنين سجنه ولو أعادوه للمعتقل لاكتفى بما رأى في ذلك اليوم.
وروى القواسمي أنه وبعد أيام من الإفراج عنه اقترب منه أحد الملثمين من كتائب القسام لتقبيل ابنه مراد ذي التسعة أعوام وأخذ صورا تذكاريه معه، "وحينئذ تفاجئ الصغير بالوضع كونه اعتاد على رؤية جنود الاحتلال ومعاملتهم السيئة للمواطنين في مدينة الخليل".
وعند سؤاله عن استعداده لمواصلة عمله الجهادي أم أنه سيكتفي بما قام به أجاب بنبرة قوية: "من يكتفي بسنين سجنه يكون في تربيته خلل، فجميعنا كنا وما زلنا مشاريع شهادة نسعى لنيلها من أجل تحرير فلسطين".
وعاد ليخبرنا أنه لن يعود للخليل في الوقت الحالي كونه يدرك غدر الاحتلال وإمكانية اعتقاله فيما بعد، موضحا أن لديه أخا ما زال يمكث في سجون الاحتلال ومحكوم بالمؤبد.
****** الصيام والمسئولية
وقالت هداية القواسمي (25 عاما) بدورها إنه يصعب عليها البعد عن عائلتها ومدينتها التي قضت فيها أجمل سنوات عمرها، موضحة أنها كانت تتمنى استقبال زوجها لحظة نزوله من الباصات لكنها التقته مساء إثر منعها من الدخول للأراضي المصرية في ساعات الصباح.
وعند سؤالها عن اللحظات الحرجة التي مرت بها أجابت: "يوم النطق بالحكم على زوجي كان من أصعب اللحظات التي مررت بها، فقد شعرت وقتها بالضيق، وقد كنت صغيرة وأما لطفلين، ولكن ما هي إلا لحظات حتى عاد الصبر إلي ورضيت بما قسمه لي رب العالمين".
وذكرت أنها كانت تدرك قبل زواجها معنى الاعتقال؛ فكثيرا ما كانت تفتقد والدها الذي غيبته السجون وكذلك أخاها الوحيد الذي أجهدت عائلته وهي تبحث عنه وتحملت ضغوط جنود الاحتلال عند زيارته.
إبعاد المحرر القواسمي وعائلته لغزة ليس النهاية بل هو بداية حياة جديدة لمواصلة كفاحهم من أجل المقاومة ونيل حياة كريمة كباقي المحررين.