قائد الطوفان قائد الطوفان

خاص لمن لم يحج هذا العام

( ما معنى أن نطوف حول حجر في دين جاء ليحارب تقديس الأحجار؟، وما معنى بيت الله؟ ، وما معنى أن نرجم حجر بحجر؟ ولم يثبت لنا أن ابليس مربوط بهذا الشاهد الذي نرجمه ، وما معنى هذا اللباس الذي نلبسه في الإحرام؟ فلا هو ستر ولا عورة ، وما معنى الحلق والتقصير للشعر كعبادة يَفضُل بعضها على بعض بثلاثة أضعاف؟ ).

رمزيات الحج

تتعثر الكلمات على شفاه الحجاج أحياناً وهم يصفون مشاعرهم تجاه رحلة العمر في موسم الحج، نشعر بذلك خلال زيارتنا للحجاج لتهنئتهم بسلامة العودة، ويبدو هذا واضحاً أثناء حديثهم عن تجربتهم الشخصية وعن السبب الحقيقي وراء هذه السعادة الغامرة التي تملأ محياهم، دون مقدرتهم على التعبير عنها .

من الطبيعي أن يختلف الناس في المقدرة على التعبير ، فليس هذا ما أقصد ولكني أحاول أن أكتشف السبب وراء هذه العموميات التي يتحدث عنها معظم الحجاج خلال الرحلة، ويعبرون عنها بكلمات عامة مثل "رحلة ميسرة، تعب ممتع ، الأعداد كبيرة ، التطويرات والتحسينات في الحرمين متلاحقة ، أداء شركات الحج متفاوت ..الخ "

فاجئني أحد الحجاج الأفاضل حينما زرته قبل يومين ، وهو يتحدث عن معاني عميقة للحج غالباً ما تغيب عن الحجاج أثناء المناسك ، وفي ظني أن غيابها هو السبب وراء تعثرهم في وصف مشاعرهم تجاه هذه الرحلة .

لقد تحدث هذا الحاج عن استشعاره لرمزيات كثيرة في مناسك الحج من شأنها أن تجعل من المناسك والعبادات حالة من التعلق الإيماني والروحاني فريدة من نوعها، مثلاً كفرصة قضاء ساعات من الصلاة والدعاء في الروضة الشريفة في حين أن هناك الكثير من الحجاج يجدون صعوبة بالغة في أداء ركعتين فيها بسبب الزحام، هذا التفرد وهذه الفرصة تُشعر الحاج بأن الله اختاره ويسر له سبيل الوصول إلى رضوانه من بين ملايين جاءت لنفس الغاية .

وحينما يقف الحاج أمام الكعبة المشرفة "بيت الله" ويبدأ تجربته الأولى بالطواف والدعاء في آن واحد، تختلط عليه المشاعر في البداية ثم لا يلبث أن يذوب حباً وتضرعاً وشكراً لله أن يسر له سبيل الوصول لبيته والوقوف على عتباته، راجياً ألا يخرج من بيته إلا مغفوراً له "بإذنه" .

ولحظة أن يشعر بالتعب اليسير من السعي بين الصفا والمروة، يعيش حينها تلك الحالة التي كانت تركض فيها أمنا "هاجر" بولدها على الصخور السوداء الحارقة وتحت وطأة الشمس اللاهبة، بلا ماء ولا ظل .

رمزيات كثيرة تحدث عنها الأخ كانت تجول في خاطري خلال غيابهم في الرحلة ، وخطبت خطبة الجمعة الماضية عن بعضها ، ولكم سررت حينما تحدث الأخ عن أثر استشعار هذه المعاني في الحالة الإيمانية التي يعود بها الحاج وتملأ كيانه ويشع بها على من حوله .

 لقد فكرت في هذه الرمزيات، وفي المنافع المقصودة في قوله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ .. }الحج28، ورأيت أنه من الظلم أن نحصر هذه المنافع في التجارة التي تتم في الحج بالنظر إلى حجمها ونوعها وبالمقارنة مع الصفقات البترولية التي تُعقد في يوم واحد وفي أي دولة من دول الخليج النفطية.

وليس من الإنصاف أن يقتصر النفع على الحجاج فقط دون ذويهم ومحيطهم، فكم عدد الحجاج الذين يُقدر لهم تأدية هذه الفريضة كل عام؟ مقارنة بأعداد المسلمين في بقاع المعمورة؟ بالتأكيد لا وجه للمقارنة، فإذا نظرنا إلى كون هذه الشعيرة هي واحدة من أركان الإسلام الخمس، اتضح لنا أنه ولابد أن هناك منافع أعمق وأبعد أثراً للحاج وللأمة وأكبر بكثير من تجارة من هذا النوع، تجارة من طرف واحد يكون الحاج فيها هو المستهلك غالباً .

إن هذه الشعيرة بكل ما فيها من مناسك مليئة بالرمزيات العميقة ، فمثلاً ما معنى أن نطوف حول حجر في دين جاء ليحارب تقديس الأحجار؟، وما معنى بيت الله؟، والله يقول عن نفسه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }الزمر67.

وما معنى أن نرجم حجر بحجر؟ ولم يثبت لنا أن ابليس مربوط بهذا الشاهد الذي نرجمه ، وما معنى هذا اللباس الذي نلبسه في الإحرام؟ فلا هو ستر كامل ولا عورة مكشوفة، وما معنى الحلق والتقصير للشعر كعبادة يَفضُل بعضها على بعض بثلاثة أضعاف؟ .

ومثل ذلك باقي مناسك وتفصيلات الحج كالوقوف لمدة يوم كامل على جبل ، والسعي بين جبلين، وما إلى ذلك من تفصيلات عاشها الحجاج خلال الرحلة .

إذا هي رمزيات كثيرة ليس للمرء فيها من حظ سوى الإتباع ليس إلا، صرّح بها عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، حينما " قبًّل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال أما والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" وفي رواية "حجر لا تضر ولا تنفع" .

اتباعٌ وانقيادٌ تام في عبادة الحج التي اشترط فيها تزامن وتلازم بين الزمان والمكان لم يشترطا في أي عبادة أخرى، منهج تربوي يعالج تقصير عام كامل بالتهاون في أداء العبادات في زمانها المحدد ومكانها المخصص.

رمزياتٌ عميقة يحتاج أن يعيش معها من ينوي الحج في العام القادم وأن يتم تذكيره بها قبل الرحلة وأثنائها من قِبل الوعاظ والمرشدين ، بدلاً إغراق الحجاج بتفاصيل فقهية حول المناسك لا يلبث أن ينساها حينما يضع قدمه في هذه البقاع الطاهرة ويترك نفسه يسبح وسط هذه الجموع البشرية الهائلة ، يفعل كما يفعلون، بلا حرج .

والموفق من وفقه الله ليبحث عن هذه المعاني من الآن، ويستشعر هذه الرمزيات الكبيرة، التي يدوم أثرها إلى لحظة اليقين ويشع نورها إلى عموم المحيطين، والله الموفق .

بقلم/ يوسف حمدان

البث المباشر