قائد الطوفان قائد الطوفان

رامبو السجون وحكاية سلاحه الابيض

الرسالة نت - لميس الهمص

أخفاها عقدان ونصف من الزمان فجر بها ثورة.. بصمات أنامله حفرت على رفيقة دربه في  المقاومة والجهاد.. هي من تسببت باعتقاله وتعذيبه لكنه لم يفصح عن مكان احتفاظه بها.

بسكين لا يتجاوز ثمنها الشيكل والنصف ترك المحرر خالد مطاوع الجعيدي بصمات جهاده على أعناق المستوطنين الذين كانوا يرتادون سوق غزة عام 1985م، وكأنه يريد أن يثبت للجميع أن الإمكانات لا تذكر مقابل النية الصادقة والإيمان.

مفجر ثورة السكاكين أفلح في إخفاء سلاحه الأبيض على مدار 25 عاما بدفنه في مدينة غزة، وما أن أبصرت عيناه الحرية حتى حن إليها فخرج باحثا عنها ليجد أن سنوات الاعتقال غيرت ملامح المكان، والأرض طوت سلاحه الأبيض بداخلها.

تفاصيل العمليات

في يوم السبت انطلق من مدينة رفح -جنوب قطاع غزة- مستقلا الباص بشيكل ونصف اتجاه مدينة غزة.. توجه للمسجد العمري ليصلي ركعتين فهو لا يعلم إذا كان سيرجع أم لا.. سار بخطوات الواثق بنصر الله نحو سوق غزة "فراس".. حاول اصطياد فريسته بسؤالها بالعبرية "ما الشاعة؟" للتأكد منه.. وضع نصب عينيه قول الله: "ولم تقتلوهم ولكن الله قتلهم".. وجه له طعنة واحدة في العنق بموسه الذي اشتراه بشيكل ونص أيضا فأراده قتيلا، وهرب بعدها مسرعا.

حالة من الفوضى سادت داخل السوق تبعثرت على إثرها الخضراوات والفواكه.. كل من فيه حاول الهرب قبل قدوم دوريات الاحتلال.. احتمى المنفذ بأبناء شعبه وهرول مسرعا وعاد أدراجه لرفح.

هذا السيناريو ما استخدمه المحرر الجعيدي في عمليته الأولى ليلقب "بمفجر ثورة السكاكين".. تلك العمليات لم تكن تكلفه إلا ثلاثة شواكل، ويعتبرها "دية اليهودي بغزة".. حاول أن يقطع الطريق على كل من تذرعوا بعدم توفر السلاح الذي يأتي إذا ما حضرت الإرادة.

بدأت قصة الجعيدي مع المقاومة في عمر التاسعة عشرة منذ أن كان طالبا في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية.. هدوؤه وشخصيته المحبوبة والمتزنة أبعدت الشك عنه لسنوات.لم يعتد المحرر حمل السكاكين أو الأسلحة لكن عمليته الأولى أجبرته على حمل "موس كباس" لأول مرة في حياته استعدادا لأي مواجهة محتملة مع الاحتلال.

قضى على المستوطنين

الأوضاع السائدة في القطاع وحكم القبضة الحديدية في أوائل الثمانينيات من "اسحق رابين" وإذلال طلبة الجامعات بالإضافة لنشأته في عائلة عانت الأمرين من الاحتلال.. كل هذا كان الدافع للجعيدي للانضمام إلى صفوف المقاومة، فيقول: "منذ نعومة أظفاري وأمي تزور إخوتها في السجون منذ بزوغ الفجر، وكثيرا حدثتني كيف قتل الاحتلال والدها بدم بارد.. تلك الكلمات التي حفرت بالذاكرة كانت كفيلة بانضمامي للمقاومة".

ويفتخر المحرر بأنه قتل في عام 1986م ثلاثة صهاينة هم: "حاييم عزران، وأبراهام أبو غوش، ويسرائيل كثرو" بطعنهم بالسكين فيما أصاب المستوطن "شوبلي" بشلل، وذلك في عمليات متفرقة قام بها في سوق فراس والساحة وعسقولة بغزة.

ويضيف: "بعد العمليتين الأولى والثانية بات المستوطنين يخشون التجول في القطاع، فأصبحت عند تنفيذ العملية أبحث عن المستوطن لأكثر من ثماني ساعات حتى أجده".

الصحف العبرية أبهرتها عمليات الجعيدي حتى قالت إن من ينفذها شخص تلقى التدريب لأكثر من ستة أشهر بلبنان.

وخلال حديث المحرر المشوق لـ"الرسالة نت" تكشفت معالم شخصيته الصلبة الهادئة المؤمنة وهو يقول: "كنت هادئا محبوبا منذ صغري لذلك لم يشك أحد بي"، مشيرا إلى أنه استطاع كتمان تلك العمليات لعام ونصف.. "ليكون عملنا نواة أول عمل جهادي إسلامي في القطاع".

لم يعلم الجعيدي الملقب بأبي يوسف أن حرصه على توسيع دائرة المقاومة ستكون سببا في اختراق مجموعته واعتقاله.

الأم الصابرة

في الجهة المقابلة للمحرر جلست والدته تستمع لكل حرف يخرج من فم ابنها وتدقق النظر في تفاصيل وجهه كأنها تعوض سنوات الحرمان، فقد مضت سنين العمر ثقيلة وحملت بين طياتها شوقا لأحبة قد غيبتهُم قيود السجن وأغلاله وأصبح اللقاء بهم شيئا صعب المنال.

أبو يوسف وجه الحديث لوالدته الصابرة قائلا: "تلك المجاهدة هي من زرعت فيّ حب الجهاد، فقد سُجن جميع أبنائها وإخوتها حتى كان يأتي العيد فلا تجد من يقبل يدها".

"فرحتي بخالد حاجة ما عمرها مرت علي".. تنهدت أم خالد بعمق، وقالت: "حياتي كلها مرت علقما، فقد قضيت عمري في السجون ما بين إخوتي وخالد".

استعانت أم خالد بالإبر المهدئة والطبيب لتستطيع احتمال مشهد لقائها بابنها وشقيقها عبد الرحمن القيق بعد خمسة وعشرين عاما من الحرمان.. تلك السنوات كانت كفيلة بتغير ملامحهم، فتقول الأم: "شعرهم طار.. مع ذلك عرفتهم لحظة رؤيتهم"، مشيرة إلى أنها فارقت الوعي لثلاثة أيام بعدما قبلوا قدميها.

يشار إلى أن الاحتلال قد سجن الاحتلال جميع أفراد عائلة الحاجة أم خالد، فحوكم اثنان من إخوتها بالمؤبد في حين أن الثالث حوكم بخمسة عشر عاما، وتعرض للاعتقال جميع أبنائها حتى زوجها، كما إن الاحتلال "لم يوفر لها"، فقد احتجزها لـ15 يوما، وحكم عليها بالإقامة الجبرية لأكثر من عقد من الزمان.

وجع السنين رسم تجاعيد وجه الحاجة هند لكن دموع الفرحة غمرتها لأكثر من مرة خلال حديثها: "زوجي توفي قبل الإفراج عن خالد بثلاثة أشهر.. كان يحلم بأن يعانق ابنه ويكحل عينيه برؤيته قبل وفاته".

"رامبو السجون"

ولقب المحرر الجعيدي "برامبو" السجون، فلم يخضع لسجانه يوما رغم تعرضه لأبشع أنواع التعذيب.

وعن أنواع العذاب التي تلقاها على أيدي المحتل يقول: "أعتقد أن أعظم ابتلاء هو الأسر، فالمعاناة التي يعانيها الأسرى كبيرة، فقد فعزلت لعشر سنوات، وتعرضت لعدة محاولات قتل وتعذيب، وكنت أتمنى الشهادة ولكن الله قدر لي الحياة".

ويضيف: "في فترة اعتقالي كانت أجهزة الشاباك تعتمد على الأذى ماديا وجسديا، فبحكم عملياتي الصعبة بوجهة نظرهم تعرضت لتعذيب لا يصدق".

ومن أشهر الممارسات التي تعرض لها الجعيدي تغطية رأسه بأربعة أقمشة ذات رائحة نتنة وخانقة، ثم يلقى أرضا ويجتمع لتعذيبه ثمانية جنود يتوزعون على جسده، فيضغطون بشدة على يديه ورجليه وأنفه وصدره وبطنه حتى فخذيه، ويحاولون الصراخ والتشويش لانتزاع الاعتراف منه.

مسلسل التعذيب كان مستمرا مع الأسير خالد حتى وصل وزنه إلى 48 كيلو لكن ذلك لم يحط من عزيمته يوما، وعاد بشريط ذكرياته المؤلمة، فروى أن الاحتلال حاول يوما جمعه بمعتقل مدني متهم أخلاقيا في العزل فرفض بشدة ذلك، ولكنهم أجبروه بالقوة رغم أن ظروف الزنزانة لم تكن تسمح بوجود أكثر من معتقل فيها، كما إن القانون يمنع جمع المعتقل الأمني بالمدني.

ويستطرد: "حذرتهم بأنه إذا لم يجر إخراجي خلال ساعة واحدة من العزل سأقتل المدني وهم من سيتحمل المسؤولية عن ذلك، وبخاصة أنه كان يعلق بعض الصور الإباحية في الزنزانة".

تلك الكلمات أصابت المعتقل الجنائي بخوف شديد وجعلته ينطوي على نفسه في زاوية الغرفة مرتجفا، وبات يصرخ حتى تجمعت قوات الأمن وأخرجته خوفا من تنفيذ تهديد الجعيدي.

ويضيف: :لم أرغب بالاستسلام لسياسة العزل؛ لذا أضربت بشدة حتى نزل الدم من كل جسدي، وهددت بالإعادة للزنزانة من جديد مع المعتقل المدني.. فأجبت: "يا قاتل.. يا مقتول" فلم يجدوا سبيلا سوى سجني وحيدا".

ويتابع: "في أحد الأيام جاءني "إسحاق مردخاي" -قائد المنطقة الجنوبية- ليسألني إذا ما كنت نادما على ما فعلت فقلت: أنا نادم أني لم استشهد في سبيل الله حتى اللحظة".

إخوة خلفهم

صدر الحكم على خالد الجعيدي عام 1986م بعد جولات من التحقيق والعذاب والتأجيل حاول خلالها المستوطنون التلاعب بعواطف القضاة لتشديد الحكم ليصل للإعدام.. يقص الجعدي الحادثة لـ"الرسالة": "بمجرد دخولي قاعة المحكمة كانت تسقط على قلبي السكينة ولا تفارقني الابتسامة لإغاظة القضاة رغم تعرضي للضرب قبل المحكمة وبعدها".

ويضيف: "كنت أصل المحكمة والدم يملأ وجهي وجفوني وعندما يبدأ القاضي بسرد التهم تبدأ أزواج القتلى بالسقوط مغشيا عليهن في مشهد تمثيلي للتأثير على حكم القاضي".

ذلك القاضي كان كثيرا يتهكم على الجعيدي بأن الدم في وجهه والضرب المبرح لن يشفع له في الحكم، ولكن خالد كان يرد: "نحن قوم نحب الموت كما إنكم تحبون الحياة.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، ويكبر داخل المحكمة.

كان أنيس الأسرى في الأسر الأمل الذي يحذوهم دوما بأن الفرج قريب لا محالة مهما طال الزمان، كما لم تزل سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصبره كالبلسم تسقط على قلوبهم.

ويشير المحرر إلى أن حالة الأسرى قبل اختطاف الجندي شاليط كانت صعبة للغاية من تداعيات أوسلو، "لكن خطف شاليط رفع معنويات الأسرى وشد من همتهم وعزمهم".

خنقت العبرات أبا يوسف عند الحديث عن الأسرى زملائه لكنه قال: "قد تستغربون أنني لم أشعر بأي سعادة حزنا على من تركتهم".

ويعتبر المحرر الجعيدي -المنتمي لحركة الجهاد الإسلامي- أن علاقته بأسرى حماس كانت الأقوى داخل السجن فكان مثله الأعلى الدكتور إبراهيم المقادمة الذي تأثر بشخصيته كثيرا، كما كان الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وأحمد الجعبري من أعز أصدقائه.. "جيزتك عندي" كان هذا وعد الشيخ صلاح شحادة له.

وتحلم أم خالد الآن في أن يحقق الله رجاءها برؤية يوسف ابن خالد لتكتمل فرحتها وتنسى معاناة 52 عيدا لم تقض أيا منها برفقة ابنها الأسير.

البث المباشر