مؤمن بسيسو
انطلاق عجلة المصالحة الفلسطينية بشكل فعلي في القاهرة، وما حملته من بشريات لامست شغاف قلب كل فلسطيني، عبّر عن نضج وطني فصائلي، واستشعار، ولو متأخر، لجسامة وخطورة التحديات التي تعصف بالوضع الفلسطيني الداخلي وتتربص بالقضية الفلسطينية دوائر التصفية والاستهداف.
في حوار صحفي مؤخرا، عزا جبريل الرجوب عضو مركزية فتح حراك المصالحة إلى درجة النضج لدى الأطراف الفلسطينية المختلفة، وعلى رأسها حركة حماس، وطبيعة إدراكها للاستحقاقات الدولية.
الرجوب أدرك جانبا من الحقيقة والصواب حين تحدث عن نضج الفصائل، لكنه لم يقل كامل الحقيقة حين انحرف برأيه قليلا عن جادة الصواب، وأغفل أن التشخيص الصحيح لمشكلة الانقسام يكشف عن أن النضج الأكبر كان من نصيب "أبو مازن" الذي ملك بيده مفاتيح المصالحة، وارتهن مسارها وحظوظ نجاحها لأجندة برنامجه الخاص وتوظيفه السياسي للأحداث السياسية والملفات الوطنية المختلفة.
نضج حماس كان واضحا، فالحركة التي عايشت تجربة الحصار والعدوان في ظل حكومة فقيرة الخبرة والموارد والإمكانيات باتت أكثر قدرة على تفهّم خلفيات الأوضاع والظروف والمواقف، وأكثر قدرة على استيعاب المتغيرات الحاصلة، وأكثر قدرة على قراءة الأحداث والمستجدات المحلية والإقليمية والدولية، ما أسهم في تجاوزها للعديد من المطبّات المصطنعة أو العوائق الصغيرة التي انتصبت في مسار المصالحة خلال جولات الحوار الماضية.
نضج فتح كان ملموسا من خلال نزولها عن سقف الاشتراطات والمواقف المسبقة التي أعاقت تطبيق المصالحة طيلة الأشهر الماضية، فالحركة باتت أكثر قناعة بحتمية دوران عجلة الشراكة الوطنية في اتجاهها السليم، وأكثر فهما لتشابكات وتضاريس السياسة الدولية، وأكثر قدرة على التعاطي مع الأطياف الفصائلية الفلسطينية من جهة، و(إسرائيل) والولايات المتحدة من جهة أخرى.
واقع الحال أن وضوح النضج الفصائلي لا يعني تمامه أو اكتماله، ولا زلنا بحاجة إلى شوط أو لربما أشواطا إضافية من العمل الوطني لبلوغ النضج المطلوب، لأن النضج المدفوع بالضرورة المجردة ليس كافيا لمعالجة القضايا الوطنية المصيرية ومواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه القضية الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة.
النضج وفق طموحنا الوطني يجب أن يتأسس على أرضية القناعة الوطنية التامة التي تعالج الشأن الوطني برمته بروحية الفهم والإدراك التي تجد ترجماتها في مواقف وسياسات وطنية خالصة لا يعتريها الخلل أو النقصان بعيدا عن منطق الضرورة الذي يسيّر الآن قطار المصالحة الوطنية.
على أية حال، يكفي أن الفرقاء دشّنوا اللبنة الأساس في جدار الشراكة الوطنية، ولا غرو أن تراكم المخرجات الإيجابية التدريجية لجولات الحوار الرئيسية والفرعية من شأنه أن يثري التجربة الوطنية الفلسطينية، ويدفع بالنضج الوطني الفصائلي شيئا فشيئا نحو الاكتمال.
نطمح إلى أفق فلسطيني رحب يملأ فضاءاته نضج الفهم والقناعة وليس نضج الضرورة والاضطرار، فالوطن يضيع، والقدس تهوّد، والأرض تُسرق، والاستيطان ينتشر، والإرهاب يتصاعد، والمجتمع الدولي يبدو في أشد لحظاته ضعفا أمام جبروت الاحتلال وتخاذلا عن نصرة الفلسطينيين، وما لم ننضج وطنيا، فهما ووعيا وفكرا وثقافة، وننزل عند مقتضيات الشراكة والوفاق، ونحترم الآخر الوطني، ونعمل وفق المشتركات الوطنية، فإن مخططات الاحتلال ستمضي بلا عوائق، وحينها سنصبح أشبه بالظاهرة الصوتية التي تدمن الصراخ خارج إطار الزمن والواقع.