بقلم: رشا فرحات
قـــــــــوائم ..
كان يعد القوائم.. يمسك بيده ورقة بيضاء وقلما أسود، وبيد مرتجفة يبدأ بالكتابة.. عيناه تخطفان بوجل نظرة بين الفنية والأخرى إلى عيناي المحدقتين نحو الورقة.. أنا بجانبه أرتدي ما تبقى من ثياب الصبا، وأنتظر، كما انتظرت في الشهر الفائت، وكما أنتظر منذ أعوام..
هناك قائمتان رصت يداه فيهما أعمدة من الأسماء الكثيرة: أمه، وأخته، ومدرسة أطفاله، وطعامه، وديونه، وملابسه، وأجرة البيت، وتصليح سيارته... وصرير القلم يرتفع رويدا رويدا، فيزج في أذناي عناء صبر طال بصحبة ذلك الانتظار الطويل.. أجرجره منذ أعوام خلفي، وفي يدي أجر من عرق شهري أسلمه له كل شهر في الموعد نفسه ليبدأ كتابة القوائم، ويرص الأسماء تلو الأسماء.. حفظت ما كتب عن ظهر قلب.. يطوى الورقتين على أسمائه وأنا استسلمت لليأس من جديد، وذهبت لتحضير طعام العشاء.. اسمي لم يكن في أي من القوائم!!..
عقيــــــــــــــم ،،
وقفت أمام باب البيت تذرف من عينيها بقايا أجنة صغيرة لدموع تتساقط، وتركض أمامها تلقف بعضا من حلوى تتطاير من يديها في رحب السماء، وهم يتراكضون.. يسير الزمن مسرعا.. يلتفون حول الشجرة الكبيرة في نهاية الشارع.. تركض وراءهم.. تؤنبهم.. تلعب معهم.. يتقاطرون من بطنها كما الجراد حتى ملأوا الشارع.. وصل عددهم المئة!!.. اصطفوا في طابور طويل.. تلقف كلا منهم لقمة فيشبع، وتعطي كلا منهم ابتسامة من شفتيها فيكبر سنة في ليلة، وتعلوا ترانيم صوتها بالدعاء، فتمر السنين كقطار سريع وهي في ظل الشجرة تعدهم، ولا تدري العد.. تحاول الوصول إلى نهاية العدد.. يلتفون الآن ويعودون أدراجهم.. لكل منهم أم من خلف الباب تنتظر، وهي تستظل وحيدة في ظل تلك الشجرة، وقد هبط الليل الآن.. وعاد كل منهم إلى أحضان أمه.
كذاب ..
تنام على الأريكة كما هي كل ليلة بعين واحدة وقلب مفتوح على مصراعيه وقدماها ما زالتا تهز ذلك الرضيع الراقد بجانبها كأنها تنفصل عن ذلك الجسد النحيل.. لونت وجهها ببعض من الألوان لعلها تستطيع إخفاء أوجاع الشك الذي نهش قلبها.. في يدها كتاب قديم تقرأه للمرة الرابعة.. على الطاولة طعام يفقد دفأه كلما مرت الساعات.. من خلف الباب رجل يأتي متأخرا.. تقف فتعيد تسخين الطعام.. تنظر إلى الرضيع الراقد مغروسا كشوكة في حلقها يربط يديها إلى الخلف فيأسرها، ويغرس قدميها في هذا البيت المثلج فترفض الرحيل.. تأخذ معطف رجل أتى متأخرا عن موعده كالعادة، تشتم روائح أنوثة عالقة في ذلك الطريق المؤدي إلى قلبها.. تسأله عن سبب تأخره: في القهوة أصدقاء، وسهرة سمر، ووقت يسير مسرعا وهي ترفض أن تنام كما يطلب منها في كل ليلة.. تسأله عن تلك الرائحة الأنثوية في معطفه.. سكون يعم المكان لدقائق طويلة.. يجيب مسرعا متلعثما بصوته البارد.. تعلم تماما أنه يكذب.
زمن الموت
من بعيد أو قريب عيناي متسمرتان.. أسحب نظرة مسروقة من جانب الحائط في غرفتي المعتمة مباشرة إلى تلك النافذة المشرعة على طريق الموت، حيث الموت في بلادي يقتات على أحلام المارين.. سكاكينهم تغرس في أجساد أخرى كانت تمر من هنا مختلسة بعضا من الحرية.. تركض خوفا ويسبقها القتل، فيقتات القتلة..
الصورة من الخلف ترعب أكثر: أنفاسي ترتفع في الأجواء، أحاول كتمها.. يتلفت القتلة.. يبحثون عن عيون تحدق.. عيوني الجبانة تنظر إلى انتهاء الجريمة.. الليل مظلم، فلا شموع في ساحة الموت.. تصرخ الأشلاء.. أصرخ بصمت.. يصرخ المارون.. الجميع يصرخ: يموت.. ساروا يترنحون دون أن يمسحوا آثار الدماء، وأنا حدقت إلى بقايا أشلاء منثورة على الطريق.. أقفلت النافذة.